* أحمد بن عبد العزيز الصقية(*) : من المتقرر والمسلم به أن الشيء يشرف بشرف متعلقه، وليس بخاف على شريف علم القراء الكرام أن العلم يحتل في دين الإسلام مرتبة عالية رفيعة، يكفي في الدلالة عليها وإبرازها أن أول ما نزل من كتاب الله تعالى، هو قوله عزّ وجلّ (اقرأ)، وكذلك ما جاء في كتاب الله تعالى - بعد ما تتابع نزوله - من رفع منزلة العلم والعلماء كقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (11) سورة المجادلة، وقوله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} (9) سورة الزمر. والحديث عن فضل العلم وعظيم قدره ورفيع شأنه مما لا يتسع له هذا المقام. فإذا كان العلم وورثته على هذه المرتبة العظيمة، كان كل ما يعين عليه - مما يهتم بالعلوم الشرعية وما يتعلق به من علوم الآلة كاللغة العربية، وما يسندها من علوم التاريخ والمعارف العامة ونحوها _ له الدرجة ذاتها والمرتبة نفسها.. ولقد أدرك هذه العلاقة الشريفة والمنزلة الرفيعة المتقدمون، فسارعوا إلى وقف المكتبات والكتب قبل وقف الأبنية والدور.. كما كان ذلك حال العلماء والأمراء والحكام والوزراء والتجار وغيرهم حتى صغار طلاب العلم ومحبي التعليم.. بل صار ذلك مما يسابق إليه أهل الفضل في كل زمان، حتى قامت المكتبات العامرة في المدارس والمساجد والاربطة والمستشفيات، ليظهر في ذلك بجلاء قوة الأمة ومسابقتها إلى المشاريع الجادة.. ثم ما فتئت تلك المرحلة أن تتلاشى حتى كادت هذه العادة الحميدة أن تندثر. وفي عصرنا الحديث وفق ثلة من الأخيار والفضلاء الى السعي الجاد للعودة بالمكتبات وأوقافها الى سابق عصرها.. محيين بذلك سنة قد أميتت، أسأل الله أن يكتب لهم أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن أبرز تلك النماذج الباهرة والمعالم الظاهرة مكتبة هي بحق من أعظم ما رأت العين من جهة الجمع والإتقان ودقة التصنيف وبذل الجهد في نفع الرواد. إذ هناك بحي سلطانة بالرياض حيث تقبع مكتبة اكتست ممن سميت به أجمل الحلل، وكذا اسم الجامع الذي تجاوره، فلها منهما حظ وافر ونصيب غامر.. حيث ترى مكتبة الإمام ابن القيم العامة في جامع شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحم الله الجميع - هذه المكتبة التي أستطيع أن أؤكد للقراء الكرام أنها ولدت واقفة إذ لم تمر بمرحلة صبا أو طفولة بل ظهرت للوجود شابة فتية قد اكتملت حسناً وجمالاً.. بل كلما ظن الناظر أنها بلغت المنتهى في الحسن والجمال، إذ بها تفاجئه بما يفوق السابق، ويصعب أن يكون له لاحق، وإني وبكل حق وأنا أكتب عن هذه المكتبة المباركة لتبلغ بي الحيرة منتهاها في اي سمة من سماتها الحسنة.. أبدأ وفي أي أمر عظيم أشرع.. وحسبي أن أظهر شيئاً مما أعرفه عن هذه المكتبة التي من الله علي بأن أكون باحثاً بها أثناء إعدادي لبحث الماجستير، وكذا إعدادي الآن لرسالة الدكتوراة، فقد خبرتها عن قرب وعشت معها شهوراً وسنين. رأيت من محاسنها ما لا يسع بسطه في مقال أو كلمة لكن لعلي وبشيء من الاختصار أشير إلى شيء من محاسن هذه المكتبة كما يأتي: * ما تتمتع به المكتبة من تصنيف متميز ودقيق يخالف ما هو معتمد في كثير من المكتبات العامة والخاصة التي تصنف الكتب لديها بطريقة التصنيف العشري (ديوي)، والذي ظهرت بعض اخطائها ولا سيما مع تنوع التصانيف وفنونها وتجددها، ممما تسبب في خلط يشهد به المختصون في التصنيف، مع صعوبة البحث إذ لا يمكن الوصول إلى الكتاب لا بمعرفة عنوانه أو مؤلفه، بخلاف ما هو معتمد بالمكتبة حيث تجمع كتب الموضوع الواحد بجانب بعضها البعض، حتى صار كل فرع من الفروع عبارة عن موضوع مستقل عن غيره مع مراعاة الترتيب الزمني لوفيات المؤلفين عند ترتيب الكتب. فمثلاً في قسم الفقه فقط يوجد أكثر من خمسة وأربعين فرعاً، كالمعاملات المالية والربا والملكية والبيوع والشروط والوكالة والمصارف والبنوك.. الخ. وأربعة وثمانون فرعاً في التاريخ، كالمغازي والفتوح والتاريخ الإسلامي وهكذا. * المتابعة المذهلة لكل جديد داخل المملكة وخارجها بل إن ما لا يوجد من الكتب يمكن توفيره لمن يطلبه من الباحثين خلال بضعة أيام فقط، مع الارتباط بقاعدة بيانات متصلة بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وكذلك لا يكاد أن تخلو المكتب من اي مجلة علمية محكمة في علوم الشريعة واللغة والتاريخ ونحوها. ومن العجيب أيضاً ان ما يفقد في المكتبات التجارية من الكتب والطبعات النادرة أو المتميزة يتم الحصول عليه من خلال شراء المكتبات الخاصة ببعض الباحثين والمحققين ونحوها. حتى يكاد يصدق على المكتبة أنه ما عرض عليها كتاب شرعي غير موجود فيها إلا اشترته ولو ديناً. * ومما يظهر ويبرز بجلاء عظيم الوفاء من جمع من العلماء الأجلاء لمثل هذه المكتبة، ما يسر الله لها من وقف عدد كبير من العلماء لمكتباتهم الخاصة على هذه المكتبة العظيمة كمكتبة الشيخ صالح بن علي بن غصون- رحمه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وكذا مكتبة الشيخ عبد الرحمن آل فريان- رحمه الله-، رئيس جمعية تحفيظ القرآن، وكذا مكتبة الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع- رحمه الله-، وهو شيخ الشيخ ابن عثيمين- رحم الله الجميع-، إلى قائمة طويلة من المكتبات الخاصة التي تم وقفها على مكتبة ابن القيم العامة والتي وصلت حتى الآن إلى سبع عشرة مكتبة خاصة. والبعض قد يرى ان لغة الأرقام هي الأجدى في إبراز مثل هذه المكتبات، ولذا فمن الإحصاءات: أ - بلغ عدد العناوين في المكتبة ما يقارب مائة الف عنوان متخصص في علوم الشريعة واللغة والتاريخ والمعارف العامة. ب - يبلغ عدد مرتادي المكتبة سنوياً أكثر من 15 الف باحث. ج - يتم إضافة أكثر من ثلاثمائة عنوان جديد شهرياً لقائمة الكتب بالمكتبة، وهذا يعني ان هناك متابعة دقيقة لكل الكتب الشرعية وما يسندها من علوم ومعارف وموسوعات، وإيمانا بأن العلم ليس حكراً على الرجال فحسب فقد من الله على هذه المكتبة بالسبق الى إيجاد مكتبة نسائية خاصة بمبناها وكتبها وأميناتها، وهي من المكتبات النسائية القليلة التي تعمل بشكل كامل ودائم خاص بالسيدات دون أن يزاحمها جدول الرجال، فهي تفتح طوال الأسبوع لاستقبال الباحثات. * ومما لا بد منه في هذا الزمن البحث الإلكتروني والموسوعات الحاسوبية التي هي من أعظم وسائل التعلم وأسهل طرق البحث.. وهذا ما لم تغفل عنه المكتبة حيث تابعت عشرات الموسوعات والبرامج الحاسوبية الشرعية واللغوية والتاريخية التي تخدم الباحثين. بل ومتابعة الإصدارات الجديدة منها ومساعدة الباحثين في استخدامها، وتسهيل تعاملهم معها، وقد تعرف عدد طلاب الدراسات العليا على أهمية هذه البرامج من خلال المكتبة وأمنائها. * ومما يجدر ذكره ما تملكه المكتبة من خطابات من عشرات الباحثين المتخصصين حول عثورهم على كتب داخل المكتبة لم يجدوها مع طول البحث في غيرها من المكتبات في الداخل والخارج فيما يتعلق بالتخصصات الشرعية وفروعها الدقيقة. * ومما يذكر فيشكر محبة العاملين في المكتبة لنفع الباحثين واحتسابهم للأجر حيث يعملون خارج وقت العمل كيوم الجمعة مثلاً عند اكتظاظ المكتبة بالباحثين في مواسم إعداد البحوث الجامعية وغيرها مما يحتاج إلى زيادة ساعة العمل احتساباً للأجر دون أي مقابل. * كما يوجد بالمكتبة عشرات الخلوات العلمية للباحثين، وقد أعد طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراة داخل المكتبة أكثر من مائة رسالة علمية. * كما تم إضافة خدمات جديدة تتعلق بالتصوير وإمكانية طباعة عناوين الكتب في موضوع معين وصناديق الأمانات وإمكانية حجز الكتب، وتزويد الباحث بقائمة جديدة من الكتب شهرياً، وكذلك كل جديد له ارتباط بموضوع بحثه وغيرها من الخدمات، وهذا التجديد والمتابعة والتطوير هي من أعظم ما يميز المكتبة. * والمكتبة لم تغفل عن ذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين حيث وفرت لهم الكتب المطبوعة على طريقة برايل. * كما يوجد بالمكتبة قسم الاطلاع المحدود الذي يتم فيه حجز كتب الفرق الضالة حفاظاً على عقائد المسلمين، وكذلك تمكين المتخصصين من طلاب الدراسات العليا من الاطلاع عليها ومناقشتها. يضاف الى كل ما سبق ما هو متحقق في المكتبة من تهيئة كاملة للباحثين يظهر ذلك فيما يأتي: أ - اقتراب الكتب بجميع تخصصاتها للباحث حيث تقع جميعها في دور واحد. ب - الهدوء التام في ساعة العمل الطويلة في الصباح والمساء التي تبلغ عشر ساعات يومياً. ج - ما أنعم الله به على أمناء المكتبة من الخلق الجم والإحسان للجميع، يضاف لهذا ما يتمتع به الإخوة من دراية كاملة بطرق البحث وسعة اطلاع، تحولهم في كثير من الأحوال الى معلمين وأساتذة ينتفع منهم الباحثون في الوصول الى الكتاب، بل والوصول الى المعلومة من خلال طريقة التعامل مع الكتب. د - كل هذا لم يبعد الإخوة عن الاهتمام بأدق التفاصيل حتى إنك لتجد الأقلام والأوراق مهيأ للباحثين على كل طاولة، وفي كل خلوة، بل وتوجد استراحة لتناول القهوة والشاي وبعض الوجبات الخفيفة في مكان خارج المكتبة يمكن فيها الاستراحة من عناء البحث ثم معاودة الجد والنشط. زار المكتبة عدد كبير من أصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب الفضيلة العلماء كصاحب السمو الملكي الأمير سعود بن فهد بن عبد العزيز، وكسماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، ومعالي الشيخ صالح آل الشيخ، ومعالي الدكتور صالح بن حميد وغيرهم كثير.. حيث يتجاوز عددهم 70 عالماً ومتخصصاً تمت الاستفادة منهم ومن خبراتهم واقتراحاتهم. والذي أظن أن كل ما سبق ما كان ليتحقق لو لا فضل الله تعالى ثم ما أحسب الإخوة العاملين في المكتبة عليه من إخلاص في العمل واحتساب للأجر ونفع للمسلمين، وعلى رأسهم الشيخ فهد الغراب، كذا أحسبهم والله حسيبهم، ولا أزكي على الله أحداً. وكذلك جهود المحسنين الذين وفقهم الله لهذا الباب المبارك من أبواب الصدقة الجارية التي أسأل الله بواسع فضله وعظيم منه أن ينور بها قبورهم ويرفع بها درجاتهم. كما أن الدعوة قائمة إلى استنساخ هذه المكتبة لتنتشر وينتفع منها وألا تكون مقصورة على الجامعات فحسب، وكذا إيجاد الأوقاف الدائمة لدعمها وإقامة روافد لا تنضب لهذه المكتبات. ولا يفوتني في نهاية المطاف أن يكون مسك الختام نسبة الفضل لأهله، وإضافة الثناء لمستحقه، إذ لا يشكر الله من لا يشكر الناس، أعني بذلك معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حيث كان لوقوفه مع هذه المكتبة، بل وتفريغ العاملين فيها كلياً للإشراف عليها ومتابعتها وتطويرها أكبر الأثر. وقد أشاد الإخوة في المكتبة بالتوجيه والمتابعة الشخصية من معالي الوزير في صدر الكتاب التعريفي بالمكتبة. ومما يجمل ختم هذا المقال به ما خطته أنامل معالي الشيخ صالح وسطره يراعه عند تقديمه لبحوث ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية عام 1420ه حيث قال بعد ذكره العلم ومكانته. (جعلت الأمة الإسلامية منذ صدر الإسلام العلم ملء العين والفؤاد وأحلته الصدر من اهتمامها، وأنزلته الرأس من عنايتها، وبذل العلماء الأجلاء في سبيل تحصيله ثمين جهودهم وأوقاتهم، فارتفعت منارة العلوم، وانتشرت المدارس والربط، وظهرت المؤلفات والمصنفات).. إلى أن قال (فبادر أهل اليسار ممن وفقهم الله الى العمل بهذا التوجيه النبوي الكريم، فوقفوا كرائم أموالهم في أمور خيرية كثيرة، وأولوا الوقوف على العلم عناية عظيمة، فكان لذلك من المنافع الجليلة والفوائد العظيمة الشيء الكثير، فكان من أبرزها وأظهرها إنشاء المكتبات العلمية التي تتضمن بين جوانحها نتاج عقول العلماء، وثمار فهوم الحكماء، من جميع العلوم والفنون والصنوف، فكانت موردا عذباً ومصدراً ثرا لروادها من العلماء وطلبة العلم فنهلوا من ينابيعها الصافية وعلومها). بارك الله في الجهود وسدد على دروب الخير والفضيلة الخطى وصلى الله وسلم على نبينا محمد.