شكلت المكتبات رافداً مهماً لإغناء الثقافة العربية، إضافة إلى أنها القاعدة المعرفية لطلاب العلم. إذ لا يخفى أن إحدى مميزات الحضارة العربية والإسلامية نشرها قواعد المعرفة من طريق الكتاب واحتضانها المكتبات وتعميمها وجعلها في متناول جمهور القراء... لقد شاهد المسلمون العرب الأوائل كتب الفرس ومكتباتهم وأعجبوا بها كما سمع العرب بمكتبة الإسكندرية الشهيرة التي أسسها"بطليموس الأول"مؤسس السلالة وغذّاها وطورها من بعده ابنه وخليفته"بطليموس فيلادلفوس"الذي جعل منها أكبر معهد أكاديمي في العالم القديم وجمع فيها أكبر عدد ممكن من الكتب والملفات. ويذكر ابن النديم أنه رأى في مدينة الحديثة قرب الأنبار في العراق خزانة للكتب فيها مخطوط الإمامين الحسن والحسين وأمانات وعهد بخط أمير المؤمنين وخطوط لعلماء في النحو واللغة أمثال أبي عمرو وبن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والغراء والكسائي، ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سيفان بن عينية وسيفان الثوري والأوزاي وغيرهم. ولقد حفل العالم العربي بجميع أنواع المكتبات العامة للجمهور على اختلاف أنواعه وثقافاته والمكتبات الخاصة التي يمتلكها أفراد معنيون لخدمة أغراضهم الشخصية. والمكتبات الملحقة بالمساجد والجوامع والربط، ومكتبات الدولة التي ينشئها الخليفة أو الأمير أو حاكم الولاية والمكتبات المخصصة للدراسات العليا والمكتبات التابعة للمدارس والجامعات ومكتبات المشافي وما شابه. وتعتبر مكتبات المساجد والجوامع من أولى المكتبات التي ارتبط نشوءها بنشوء الإسلام، إذ جرت العادة أن يودع الناس في المساجد عدداً من نسخ القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية ومن الواضح أن مكتبة المسجد ظهرت منذ أن اتخذ المسلمون المسجد مكاناً للدراسة وجعلوا للمسجد خزانة للكتب وحملوا إليها كتباً كثيرة، وقد كان لأغلب هذه الخزائن ولا سيما الكبيرة منها مشرفون على شؤونها وهم من العلماء والمشهود لهم بالكفاية، فالمكتبة لا تحتوي كتباً دينية فقط وإنما كتباً فلسفية وعلمية وكانت تدرس في المساجد جميع أنواع العلوم باستثناء الطب. وعلى سبيل المثال كان للحلقات التي تعقد في جامع طليطلة شهرتها وأهميتها وجذبت إليها الطلاب المسلمين والنصارى على السواء وكان يقصدها طلاب نصارى من جميع أنحاء أوروبا بما فيها انكلترا واسكوتلندا وقد احتفظت طليطلة بمكانتها هذه بعد سقوطها بيد الإسبان عام 1085م. أما المكتبات الخاصة فلقد انتشر هذا النوع من المكتبات في جميع أنحاء العالم الإسلامي وحرص الأغنياء والوزراء على اقتناء مجموعات ضخمة منها وامتلك علي بن يحيى المنجم بكركر من نواحي بغداد قصراً جليلاً وخزانة للكتب كذلك يجب أن نذكر ابن العميد وزير البوبهيين ومكتبته الرائعة التي زهت بأن خازنها كان المؤرخ الشهير ابن مسكوية لأن ابن العميد لم يكن عالماً وبحاثة فقط وإنما أضاف إلى ذلك حباً شديداً للكتب وكذلك تلميذه اسماعيل ابن عباد المعروف بالصاحب ابن عباد فقد كان أشد حباً للكتب من استاذه وأكثر جمعاً لها. وهو أول من لقب من الوزراء بالصاحب. وقد كان للصاحب مكتبة قدر عدد كتبها بحوالى مئتين وستة الآف مجلد 206 وقد زارها أبو الحسين البيهقي ووجد أن فهرست تلك الكتب عشرة مجلدات. ويذكر"ول ديورانت"في قصة الحضارة انه كان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوروبية مجتمعة. وبخصوص المكتبات الأكاديمية لا بد لنا أن نعرج على الحاكم بأمر الله الذي أسس دار الحكمة عام 395ه وكان الغرض الأساسي منها هو تلقين أصول الدعوة الفاطمية ونقل إليها أعداداً غفيرة من الكتب الموجودة في خزانته الخاصة من سائر العلوم والآداب والخطوط وقد قسمت المكتبة إلى أقسام، قسم الفقهاء وقسم لقراء القرآن وقسم للمنجمين وقسم لأصحاب النوع واللغة وقسم للأطباء. وكانت هذه المكتبة منظمة ومرتبة في شكل يسهل خدمة القراء فيها وقد عين مشرفاً عليها القاضي عبدالعزيز من أسرة النعمان الشهيرة وهناك مكتبة اكاديمية اخرى هي مكتبة"مراغة""التي أسسها المغول بعد سقوط بغداد في مدينة مراغة من مدن أذربيجان، ومن أشهر المكتبات تلك التي أسسها عضو الدولة البويهي في شيراز مقر حكمه وهي دار كتب فخمة طار صيتها في الآفاق وجمع فيها من الكتب ما ليس له نظير ووضعت في عهدة ثلاثة أشخاص يتسلسلون في العمل والمسؤولية. كذلك أوجد سيف الدولة مكتبة كبرى جعلها في عهدة شاعرين أخوين مشهورين هما الخالديان أبو بكر محمد ابن هاشم وأبو عثمان سعيد بن هاشم. كما كان لعبدالرحمن الأوسط في الأندلس مكتبة فخمة في قرطبة وقد عمد إلى إرسال عباس بن ناجح إلى الشرق العربي ليلتمس بعض الكتب ويستنسخها وحذا حذوه الخليفة الأندلسي عبدالرحمن الناصر الذي أسس مكتبة كبرى في قصره وخزن فيها الكتب بجميع اللغات. أما المكتبات العامة فكان لها حضورها في العالم العربي ولعل أبرزها مكتبة سابور في بغداد في القرن الخامس الهجري والثانية مكتبة بني عمار في طرابلس الشام في القرنين الخامس والسادس الهجريين. فمكتبة سابور بن أردشير أسسها وزير بهاء الدولة البويهي سابو وسميت باسمه وكان ذلك عام 382ه وتطلق على هذه المؤسسة تسميتان مختلفتان، فابن الأثير يذكرها باسم خزانة الكتب على حين أن غيره كياقوت الحموي وابن ثغري بردي يذكر أنها دار العلم وقد بلغ عدد كتبها 10400 مجلد من أصناف العلوم منها مئة مصحف بخطوط بني مقلة. وقد ظلت هذه المكتبة حية حتى عام 451ه حيث شبت نار هائلة أدت إلى حرقها. ومكتبة بني عمار في طرابلس أصبحت قصتها كالأساطير، كان فيها عدد كبير جداً من الكتب بخطوط مؤلفيها وقد حوت جميع أنواع وفروع المعرفة الإنسانية من طب وفلك وفلسفة وادب وتاريخ. أما مكتبات المدارس فكان أشهرها تلك التي أنشأها نظام الملك الذي أسس مدرسة في بغداد عام 1067م وأطلق عليها اسم نطافية بغداد وألحق بها مكتبة منظمة زودها بكل غريب ونادر. وكذلك أنشأ الخليفة المستنصر المدرسة المستنصرية على شاطئ دجلة وزودها بمكتبة حوت جميع انواع الكتب. وظهرت مكتبات المشافي، إذ ألحق الخلفاء بهذه المشافي مكتبات حافلة تضم ثمرات العقول وذكر أن عدد الكتب التي وجدت في مستشفى قلاوون بالقاهرة بلغ حوالى مئة ألف مجلد أخذت غالبيتها من دار الحكمة في القاهرة. أما من حيث التنظيم فقد كانت المكتبات في العالمين العربي والإسلامي منظمة تنظيماً رائعاً، إذ كانت توضع تحت إدارة ثلاثة أشخاص، المشرف الأعلى ويسمى الوكيل وأمين المكتبة ويسمى الخازن ومساعده ويسمى المشرف، كما أهتم العرب المسلمون بفهرست مكتباتهم وتنظيمها بحيث يسهل تناولها واستعمال كتبها على الباحثين والدارسين ولقد كانت الفهارس على نوعين: إما أن تكون مكتوبة في مجلدات تستعمل للكتب فيرجع إليها المطالع من أجل معرفة محتويات المكتبة، وإما أن تكون أسماء الكتب والمؤلفين مكتوبة على لائحة معلقة على مدخل كل قسم من الأقسام.