ظهرت المكتبات في الاسلام وتطورت نتيجة انتشار العلم والمعرفة في العالم الاسلامي. فالمكتبات انبثقت عن المجتمع الذي وجدت فيه نتيجة تطوره وحاجته اليها وهي في الوقت نفسه ساعدت على تطور هذا المجتمع ودفعه في طريق الرقي. كانت النهضة العلمية التي بدأها الاسلام هي السبب الأعظم في اهتمام المسلمين بالكتب والمكتبات واحترم أوائل المسلمين الكتب لأنها أوعية المعرفة. بدأ المسلمون التدوين والنقد والتأليف في زمن عمر بن الخطاب عندما أنشأ ديوان الجند وديوان الخراج. كذلك بدأ التأليف منذ عهد الصحابة الكرام والتابعين. وذكر ابن النديم انه رأى في مدينة الحديثة قرب الأنبار في العراق خزانة للكتب فيها من خطوط الإمامين الحسن والحسين وأمانات وعهود بخط أمير المؤمنين ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وابن الاعرابي وسيبويه والفراء والكسائي ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عينية وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم. ولعل أهم ناحية في التأليف في عصور الاسلام الأولى هو تسجيل كل الحوادث التي لها علاقة بالرسول الكريم وبالحديث الشريف باعتبار ان الحديث الشريف هو المصدر الثاني من مصادر التشريع في الاسلام. وشكل انتقال الحكم من الأمويين الى العباسيين بداية عهد جديد كان من نتائجه اشتراك الموالي ممثلين بالفرس في الحكم، ذلك ان انتقال العاصمة الى بغداد جعل التأثيرات الشرقية وخصوصاً الفارسية والهندية أوضح مما كانت سابقاً. وبلغ الأمر ذروته زمن المأمون كذلك نشطت حركة التدوين والتأليف نشاطاً هائلاً وحفل العالم الاسلامي بالعلماء والبحاثة والمؤلفين وكثرت المكتبات وتنوعت أغراضها ووظائفها حتى أصبحنا نرى علماء بلغت كتبهم من الوفرة والكثرة أرقاماً خيالية. وما ساعد على هذا التطور اختراع الورق، واستدعى هذا بالتالي ظهور الوراقين وفتحهم الدكاكين الكثيرة وازدهار تجارة الكتب ووجود طبقة من الكتاب النساخ الذين أصبحت مهنتهم نسخ المخطوطات وإعدادها للبيع. وفي عصر الرشيد وابنه المأمون اشتهر النقل وأصبح في زمانهما عملاً رسمياً تتولاه الدولة وتنفق عليه من موازنتها وتحشد له أعظم العلماء والمفكرين وتؤسس له الهيئات العلمية. فأسس الخليفة الرشيد مؤسسة كبرى للنقل والملازمة كما يقول صاحب "الفهرست" ثم تطورت زمن المأمون وأصبحت مؤسسة علمية من الطراز الممتاز همّها ترقية البحث والتجرد للدراسات العليا. ويمكننا القول ان هذه المؤسسة المعروفة باسم "بيت الحكمة" أصبحت زمن المأمون أكاديمية في المعنى الدقيق للكلمة تحوي أماكن للدرس وأماكن لخزن الكتب وأماكن للنقل وأماكن للتأليف الى جانب المرصد الفلكي. وحاول المأمون ومن أتى بعده أن يجمعوا في هذه المكتبة القسم الأكبر من تراث الاسلام حتى عهدهم مع عنايتهم الخاصة بالمواد التي لها صلة بهم. ومع التقدم زادت نسبة المكتبات وتعددت أغراضها وأنواعها. فهناك المكتبات العامة للجمهور، والمكتبات الخاصة، والمكتبات الملحقة بالمساجد والجوامع والربط، ومكتبات الدولة، والمكتبات المخصصة للدراسات العليا، والمكتبات التابعة للمدارس والجامعات، والمكتبات الموجودة في المشافي وما شابه. 1- مكتبات المساجد والجوامع جرت العادة في الاسلام ان يودع الناس في المساجد عدداً من نسخ القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية والنافعة كوقف الفائدة للمطالعين والمصلين. ومن الواضح ان مكتبة المسجد ظهرت منذ اتخذ المسلمون المسجد مكاناً للدراسة وجعل للمسجد خزانة للكتب وحملت اليها كتب كثيرة. وكان لغالبية هذه الخزائن ولا سيما الكبيرة منها مشرفون على شؤونها وهم في الغالب من العلماء المشهود لهم بالفضل والصلاح. وكانت تعقد الحلقات في المساجد للدراسة والمناظرة كما كان يحدث في جامع بني أمية في دمشق وفي جوامع مكة والمدينة وفي الجامع الأزهر وفي جامع المنصور في بغداد وفي جوامع قرطبة وطليطلة. 2- المكتبات الخاصة انتشر هذا النوع من المكتبات في معظم أنحاء العالم الاسلامي وحرص الكبراء والوزراء والأغنياء على اقتناء مجموعات ضخمة منها. وهذه المكتبات وإن كنا نسميها خاصة لأنها تخص أفراداً معينين، إلا أن بعضهم يبيعها للناس كما فعل ابن المنجم وبعضهم يفتحها لأصدقائه والعلماء والبحاثة ومن يثق بهم والبعض الآخر حرم استعمالها إلا على نفسه وحاشيته. ويعتبر هذا النوع من المكتبات مع مكتبات المساجد أول أنواع المكتبات ظهوراً في الاسلام. 3- المكتبات الأكاديمية أسس الحاكم بأمر الله دار الحكمة سنة 395 ه واختار هذا الاسم رمزاً للدعوة الفاطمية لأن مجالس الدعوة كانت تسمى مجالس الحكمة، فهي بهذا الوصف مكتبة قيمة تدرس فيها العلوم المختلفة. وكان الغرض الأساس من دار الحكمة هو تلقين أصول الدعوة وأنظمتها السرية. وأراد الحاكم أن تبز مؤسسته كل ما سبقها من مؤسسات، فنقل اليها أعداداً غفيرة من الكتب الموجودة في خزائنه الخاصة من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة وقسمت المكتبة الى قسم الفقهاء وقسم آخر لقراء القرآن وقسم ثالث للمنجمين وقسم رابع لأصحاب النحو واللغة وقسم خاص للأطباء. وهناك مكتبة أكاديمية اخرى هي مراغة أسسها المغول بعد سقوط بغداد في مدينة مراغة من مدن أذربيجان. 4- المكتبات الخلافية مكتبات أسسها الخلفاء والأمراء والحكماء وجعلوها حلقات للمناظرة والسمر والمحاضرات وإلقاء العلوم المختلفة، وازدهرت هذه المكتبات حيث ومتى وجد خليفة أو أمير أو حاكم متنور محب للعلوم والآداب ومقرب للعلماء. وبعض هذه المكتبات كانت مباحة للناس والبعض الآخر كان يقتصر على استعمال الخليفة أو الأمير وحاشيته، وانتشرت هذه المكتبات في أرجاء البلاد الاسلامية، واشتهرت خصوصاً في الأندلس. 5 - المكتبات العامة ان المكتبات العامة هي المقياس الحقيقي لرقي الشعوب وإن كثرتها وتوزعها وسهولة ارتيادها تدل على ثقافة الشعب، ذلك ان المكتبات الخلافية تعكس اهتمام الحكام أنفسهم بالثقافة وهي للاستعمال الشخصي عموماً واذا فتحت أبوابها فلفئة معينة من الناس. ولكن المكتبات العامة في الاسلام كانت ذائعة ومنتشرة في العالم الاسلامي من حدود الصين والهند شرقاً الى حدود فرنسا غرباً وشمالاً وقلما تخلو بلدة وقرية من مكتبة عامة، اضافة الى مكتبات المساجد التي كانت ملحقة بها والمباحة للجميع عدا مكتبات الأفراد ومكتبات الربط والمدارس والكتاتيب والمعاهد. واشتهرت مكتبتان عامتان كان لهما أهمية كبرى في العالم الاسلامي: الأولى مكتبة سابور في بغداد في القرن الخامس الهجري والثانية مكتبة بني عمار في طرابلس الشام في القرنين الخامس والسادس الهجريين. 6- مكتبات المدارس المدرسة في الاسلام منذ نشأته كانت في المساجد والجوامع والكتاتيب وغيرها، ولم يحدث ان بنيت المدارس الا في مرحلة متأخرة من مراحل الحضارة الاسلامية حين أسس نظام الملك مدرسة في بغداد سنة 1067 م. وأطلق عليها اسم نظامية بغداد، وألحق بها مكتبة غنية منظمة زودها نظام الملك كل غريب ونادر. كذلك أنشأ الخليفة المستنصر المدرسة المستنصرية على شاطئ دجلة وجعلها وقفاً على المذاهب الأربعة ليحصل بها كمال المنفعة. الى ذلك نضيف مكتبات المشافي، وهي مخصصة للمرضى وإيجاد الأماكن اللازمة لمعالجتهم وتطبيبهم. واهتم أوائل الخلفاء بهذه النواحي، وفألحقوا بهذه المشافي مكتبات. لأن المستشفى لم يكن مكاناً للتطبيب والتمريض فحسب وإنما كان أيضاً مكاناً لتعليم طلاب الطب ماهية الأمراض وطرق معالجتها فكان مكاناً للتدريب العملي ومكاناً للدراسة النظرية. وبلغت بعض المكتبات الملحقة بالمشافي حداً ضخماً، وذكر ان عدد الكتب التي وجدت في مستشفى قلاوون في القاهرة نحو مئة ألف مجلد أخذ معظمها من دار الحكمة في القاهرة. ليس مهماً وجود المكتبة ولا وفرة الكتب فيها وإنما يجب أن يتوافر الى جانب ذلك ناحية تنظيمية وهي كيفية تنظيم المواد في المكتبة وحسن ادارتها. فقد كانت المكتبات الكبرى توضع تحت ادارة ثلاثة أشخاص: المشرف الأعلى ويسمى الوكيل وأمين المكتبة ويسمى الخازن ومساعده ويسمى المشرف. وحوفظ على هذا النظام الثلاثي وإن حصلت تغييرات في أسماء المناصب. فالمدرسة المستنصرية تولى الاشراف على شؤون مكتبتها ثلاثة موظفين سمي الأول خازناً والثاني مشرفاً والثالث مناولاً. واهتم المسلمون أيضاً بفهرسة مكتباتهم وتصنيفها وتنظيمها حتى يسهل تناولها واستعمال كتبها على الباحثين والدارسين. وكانت الفهارس على نوعين: اما ان تكون مدونة في مجلدات تستعمل كالكتب فيرجع اليها المطالع من أجل معرفة محتويات المكتبة وإما أن تكون أسماء الكتب والمؤلفين مكتوبة على لائحة معلقة على مدخل كل قسم من الأقسام. وكانت المكتبات تحصل على كتبها بطرق متعددة أهمها: المصادر، الشراء، الوقف، النسخ، الهبات، والهدايا. قامت المكتبة في الاسلام من أجل غاية دينية هي تعليم الناس أمور دينهم وتفقيههم وتثقيفهم ثقافة دينية وأنشئت المكتبات من أجل هذا في المساجد والجوامع ولذلك ظهرت أقدم المكتبات في المساجد. واعتبرت المكتبة مركزاً للتربية وكانت هيئة مهمة من أقسام المؤسسات التربوية التعليمية التي ظهرت لاحقاً كالمدارس والكتاتيب والجامعات. كما لم تكن المكتبة مكاناً لتعلم الفرائض والواجبات الدينية وتلقي العلوم الأخرى فحسب بل كانت الى جانب هذا مركزاً للبحث والدرس والتأليف. كما اعتبرت المكتبة مركزاً اجتماعياً، ومنتدى يجتمع فيه أهل البلدة أو الحي. فالمكتبات في الاسلام أسست منذ اللحظة الأولى لتقوم بالدعاية لمذهب معين أو عقيدة معينة أو فكر اضافة الى قيامها بالوظائف الأخرى. ولكن بعد هذا الماضي الحافل الذي سجلته المكتبات الاسلامية زال دورها مع تراجع دور المؤسسات العلمية والدينية لأسباب داخلية وخارجية. وما سلم من الكتب والتراث الاسلامي المخطوط فقد ران عليه جهل مظلم وراح أكثره طعاماً للنيران أو الأتربة والغبار ولم ينتبه أحد له أو لقيمته. وروى المقريزي انه في سنة 691 ه. وقع حريق هائل في إحدى خزائن الكتب في القاهرة فتلف بها من الكتب في الفقه والحديث التاريخ وعامة العلوم شيء كثير فانتهبها الغلمان وبيعت أوراقاً محرقة فظفر الناس بنفائس أخذوها بأبخس الأثمان، وظل الحال على هذا المنوال حتى بدأ الاحتكاك مع الغرب وبدأ الغرب يسطو على كنوزه وكان من جملة ما سطا عليه المخطوطات العربية وإذا قدر لأحدنا أن يزور مكتبات الغرب الكبرى فسيجدها تزخر بروائع تراثنا المخطوط. * أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.