يضاف إلى هذا عدم عمق بعض الأفكار في قصائد قليلة، وذلك على النحو الذي بدا من قصيدته (اعتراف شاعرة عاشقة): شيء ما يتسلل في أعماقي وأداريه وأحاول أن أخفيه أن استره عن عينيه حتى لا يأخذني في عالمه وعدم ملاحظة الفرق في النَّسق الموسيقي بسبب اختلاف حركتي إعراب فعلين من حيث الظهور والتقدير وهما الفعل المضارع (أداريه) في المقطوعة السابقة المرفوع لتجرده من الناصب والجازم بضمة مقدرة على الياء للثقل والمضارع (أخفيَه) المنصوب بأن بفتحة تظهر على الياء لخفتها. وفيما يخص العروض استعمل الشاعر البحور المعتادة وشعر التفعيلة والشعر المنثور، ووردت في الديوان قصائد معيّنة تحتاج إلى إعادة النظر في أوزانها وهي: ابتعدي، المرفأ المفقود، المأوى، الآزفة، هجير، أغار، غرام، ثلج الأيام، وفي الديوان قصائد موزونة على غير البحور الخليلية وهي: أهواك (مستفعلن فاعلن مستفعلن)، ودلني (فاعلن فاعلن)، وقصيدة (غيث) من المتدارك إلا أنه كان يستعمل (فاعلن) مرة ومرة يستعملها مخبونة (فعلن) وهو استعمال غير معهود وربما كان غير مستحسن. بقيت كلمة صادقة نقولها في شاعر الصّهيل الحزين وفي شعره: إنَّ ما ذكرناه هنات يسيرة لا يخلو منها قصيد في كل زمان ومكان، وهي لا تقلل من أهمية شاعرنا المبدع ومن قيمة شعره البديع، وقد أصابت هذه الهنات في غابر الأيام بعض أشعار أعظم الشعراء وفحولهم على النَّحو الذي رأيناه في وساطة القاضي الجرجاني بين المتنبي وخصومه، وفي موازنة الأمدي بين أبي تمام والبحتري، وغيرهما من أمهات كتب الأدب والنقَّد، وما نجا هؤلاء العظماء والفحول من أن يكونوا محلَّ انتقاد ومؤاخذة في هذه الأشعار مع كونهم وكونها في منزلة ترقى في أذهان القراء من أدباء ومتأدِّبين إلى ما يستفظع انتقاده ويستهجن التعرض له. ومهما يكن من أمر فإنَّ شاعرنا يعدُّ بحق شاعراً مجيداً على الرغم من أنه (دكتور) في العلوم، ودراسته الأكاديمية كلها من بدايتها إلى نهايتها في غير حرفة الأدب، وعلى الرغم أيضاً من أعبائه الوظيفية في الحياة الدبلوماسية وجلُّها من الصوارف عن الفنون عموماً وعن الشِّعر على وجه الخصوص، وهي أعباء جلعت حياته تجري في أجواء تختلف كثيراً عن الأجواء التي يحب الأديب أو الشاعر أن يعيش فيها ليكون أكثر إبداعاً وأعمق إجادة وأسلم أنماطاً وأوفى نظماً ونثراً. وشاعرنا يقف في جميع الأحوال بدون شك في الصَّف الأول من الشعراء المعاصرين، وهو بينهم فرس أصيل له صهيل حزين وغير حزين، قد لا يفوز بالجائزة الأولى بينهم لكنه حتماً من المجلِّين البارزين السبّاقين البارعين. حبذا لو انصرف في هذه الأيام الكالحة بصورة أكبر عن الغزل الذي اعتاده إلى الشِّعر الوطنيِّ والإسلاميِّ الذي ينبغي له، وذلك على النحو الذي رأيناه أخيراً في مقطوعته المثيرة التي نشرت منذ أسابيع في صحيفة (الجزيرة) الغرَّاء تحت عنوان: (صرخة)، والتي نستحسن أن نختم بأبياتها بحثنا هذا مع دعوة الشَّاعر إلى الإكثار من هذا اللَّون من الشِّعر المحبَّب الرَّائع الذي يراعي مقتضى أحوالنا الحالية ويألم للتَّراجع المؤسف الذي تحياه الأمَّتان العربيَّة والإسلاميَّة الآن، يقول الشاعر: قهر لهذا النَّخل أن يهوي انحناءً وامتثالاً للرّياحْ قهرٌ لهذا السيف في الغمد المغيَّب لا يردُّ على الجراحْ قهرٌ على خيل المروءة في القيود ولا تصول إلى الكفاحْ قهرٌ على صوت البلابل أخرستها عنوة صور النّباحْ قهر على همم الرِّجال تغافلت صوت المؤذِّن للفلاح جُرحي تفتَّق وارتوت منه المنايا في أهازيج الرِّماحْ طَيْري تساقط في يدي منهوكةً أوصالُه دامي الجناحْ لا ليلَ يسعفني أغوص بعمقه خجلاً إذا انبلج الصباحْ أخيراً أود أن أقول: لو لم يكن لشاعرنا إلاّ هذه الصَّرخة الوطنيَّة الرَّائعة، وإلاَّ بيته المرهف في قصيدة أخرى دعائية عن الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أداري حبيّ له واشتياقي كيف من قد أضناه شوق يداري؟ وإلا انسياحه المليء بالأحاسيس الشَّفّافة حين يقف في محراب التَّأمُّل في إحدى قصائده الفلسفية لينطلق بالحكمة: لم يبق لي إلاَّ وصايا من أبي علّقت أحرفها على جدران قلبي في الأزلْ وأنا صبي.. حتى ارتحلْ وتلاوة قد أسكنتها خفقه أميِّ، من السُّور القصار أظلّ أذكرها، وفاتحة الكتاب وكذلك عندما يترنمَّ في المحراب نفسه ليزيدنا من هذه الحكمة: إني رضعت براءتي من ثدي أمِّي في نقاوة برعمي وخطيئتي من ثدي دنياي ومن شفة كأحلام العسل إلى آخر القصيدة. أقول لو لم يكن له إلا ما ذكرناه لكان هذا كافياً ولكفاه تيهاً وفخراً بين الشعراء والأدباء والقراء.