(من خبايا الوجد) عنوان ديوان للأستاذ الشاعر الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة سفير المملكة العربية السعودية في الرباط المعروف بشاعر الصهيل الحزين أصدره العام المنصرم في العاصمة المغربية، وهو في الأصل عنوان لآخر قصيدة في الديوان كتبها عام 1999م. اشتمل الديوان على ستة وثلاثين عنوانا، كثرتها الكاثرة مقطوعات، وأطول القصائد القليلة فيه قصيدة (غربة). وتكاد المقطوعات بخاصة تدور كلها حول موضوع واحد هو الغزل، إلاّ (ليتني كنت الشهيد) فتدور حول الانتفاضة المباركة في فلسطين وكتبها عام 2000م، وهي أيضاً مضمنة في قصيدته الطويلة (أسفار الرؤيا) التي نشرها في ديوان مستقل بها في العام الماضي كذلك، ويبدو أنّه كتبها وحدها ثم أدخلها في هذه ونشرها أيضاً في (خبايا الوجد). وثمة قصيدة في الديوان عنوانها (ثلج الأيام) كتبها في ولاية إنديانا بأمريكا عام 2000م تعبر عن ضيق وبرم بوجوده هنالك، أمّا (غربة) وهي كما ذكرنا أطول ما في الديوان فمطلعها غزلي، وهي في الاغتراب والحنين إلى الوطن. وغزل الشاعر يدور كله حول علاقته بالمرأة، ويبدي فيه ظمأ إليها وهياماً شديداً بها، ويبين عن خلع العنان لنزوات قلبه المستعر إليها. والغالب على هذه العلاقة أنها استسلام للمرأة واطَراح بين يديها، إلا أنها قد تكون عكس ذلك كما يظهر في قصيدة (فكَّ الإسار)، فهي ثورة على علاقة كانت المقطوعة فيها متسِّلطة عليه فيما يبدو، متحكِّمة فيه تحكُّماً أذله مع عدم الإخلاص له، فعزم على التحرُّر منها بالقطيعة على ما يلقى من عنت القطيعة. وصرخت في الآفاق إنّي لن أعود إنّي كتبت نهاية الحبّ الوحيد فخرافةٌ حبٌّ نما بين القيود فُكَّ الإسار فقد سئمت من الإسار ذاك الهوى المزعوم أنهكه الدّوار وهي انتفاضة يناقضها استسلام وتخشُّع في الهوى واستكانة قد تجعله بين يدي صاحبته إنساناً لا يملك من أمره شيئاً على ما ظهر في قصائد أخرى، كقوله في واحدة منها: وطرقت باب الحبِّ في خجل الصِّبا وتبتُّل النُّسَّاك للمحبوب ودلفت للمحراب قلباً خاشعاً وتكاد خفقات الهوى تودي بي لبيك يا أمل الحياة فقد أنب ت وفي يدي قدر الهدى المكتوب ذابت على جفني ملامح حبره وجرت لظى في خدي الملهوب والشاعر لا يقف حبه على واحدة، بل هو موزّع الهوى بين الحسان جميعاً، لأنَّ هواه كما لاحظنا ليس بنابع من شعور مستقرّ، بل هو هوى آنيٌّ متقلّب تصنعه إثارات عارضة فتستفزُّ قلبه المتقلب السريع التأثُّر بما يرى، ويظهر أثر هذا في الجانب الفني من شعره الغزلي، فهو لا ينمٌّ على علاقة عشق حقيقية ذات أثر عميق في نفس الشَّاعر، ولكنَّه تسجيل لظواهر وعوارض تُحدِث إثارات من نوع ما فيسجِّلها تسجيلاً سريعاً ويدوِّنها كما يراها بعيني رأسه أكثر من عيني قلبه، وليست إثارات قلب شاعرنا وانفعالاته فيما يبدو مبنية على نظرة جمالية يتخدها فلسفة له، ولا هي صادرة عن شعور نفسيٍّ مستقرٍّ إزاء الجمال كذلك المعروف عند عمر بن أبي ربيعة المتقلّب الهوى مثله والذي جعله يقف حياته على المرأة فيصف منها ما وصف، ولا هي نابعة عن نظرة معينة إلى المرأة كتلك التي كان ينظرها نزار قباني، ولكنّها هوى مزاجيٌّ متقلِّب لا يعرف الاستقرار، وقد صرّح الشاعر بهذا في قصيدة (ابتعدي) فقال غير متحرّج من صاحبته: ابتعدي عن دربي.. ابتعدي عن قلبي إني مزقت مواثيقي وعهود الحبِّ فحبيباتي كل جميلات الكون لا أوثر أنثى أو لوناً عن لون وأنا قلب لا يحفظ يوماً وعده إني في يومي هذا أهواك وغداً من صفحة عمري أنساك وهذا يشي بأن قلب الشّاعر رهن آثار النّظرة الأولى، والنظرة الأولى حمقاء كما يقول العرب، فإذا عَنَّ له من تبدو فيه ملامح حسن تعلّق به، فإذا توسمه بعد اللقاء وبدا له منه خلاف ما أظهرت النظرة الأولى فلا يستطيع الصبر على من خدع به فيتعجّل العزوف عنه وقطيعته. وعلى كثرة العلاقات النسوية في هذا الدِّيوان، وولع صاحبه بهنَّ، كان مجمل قصائده على جانب من العفَّة لا يتنزَّل عنه إلى ما تعود بعض الشعراء تقحّمه من ألفاظ غير أخلاقية، وإذا ذكر ما لا يحبُّ أن يذكر جعله حلماً دفعاً للحرج، ويعني ذلك ربَّما أنَّ غزله ثقافيٌّ إن صح التعبير أكثر من تجربة واقعية. يقول مثلاً في (عبث الشراب): ثغر الحبيب الشَّهد في الأحلام رواني على جمر الرضاب وحسوته هجعاً أخالسه يؤانسي فينسيني العذاب هل أكتفي يا قلب بالأحلام أشربها فتفقدني الصّواب؟ ويقول في (موعد): لم يبق إلا الحلم، مولاتي يداعبنا نلملمه خفاء وأفضل قصائد شاعرنا الغزلية من الناحية الفنية قصيدة (حالة)، وأجود من غزله شعره في الأغراض الأخرى، ففيه لغة متماسكة، وأفكار تستحقُّ التَّعبير عنها ولاسيَّما (غربه)، وفيه إلى ذلك طول نفس ليس في سائر الديوان، وجزالة مناسبة وعاطفة جيدة، ويتمثل هذا إلى حدّ كبير في قوله: قد ذرعت الزمان شرقاً وغرباً سندباداً قد ضاق بالأسفار غربتي طالت والأماني صداها في دروب الجنون صوت سعاري كلُّ حسن شاغلته بغرامي وزرعت الحقول من نوَّاري وزرعت الحقول شوكاً وورداً وحسوت الصَّفاء بالأكدار وأشدُّ ما تكون عاطفة الشاعر صدقاً والتياعاً حين يذكر الأماكن المقدَّسة في مكةالمكرمة والمدينة المنوَّرة، فإنه حينئذ يخلع ثوب الصِّبا والتَّصابي، ويلبس جبَّة الناسك المجاور الذي يكاد يذوب رقة في طوافه وصلاته وابتهاله ومناجاته. وتملَّيت بالرؤى تتوالى بعبير يفوح بالتذكار تلك أضواء قبلتي في كياني وعناق العشاق للأستار ومقام الخليل هلَّ سناءً وقلوب العبِّاد في استغفار هذه روحي في ملاذ الحيارى صافحتها النَّفحات بالأنوار إيه: يا كعبتي أطوف حواليك بنبضي جسماً بعيد المزار فكأني مثل الحمام جناحاً وهديلي نوح إلى الغفّار وتسامت مشاعري ثم ذابت في صلاة للواحد السَّتَّار يا رفاقي في حبِّ طه خذوني فربيع القلوب في الأذكار أذكروني إنّي أسير غرام ونذرت الأشعار للمختار لا أداري حبي له واشتياقي كيف من قد أضناه شوق يداري؟ وهذا روح سعوديٌّ حجازيٌ صادق، واشتياق مواطن مخلص تلهبه الغربة والبعد، وشعور إنسان شديد الإحساس بما يتصوره ذنوباً تثقله يتوق إلى التخفف منها في وقوفه، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخليط الجميل المؤثر أجلى في المقطع السابق منه في (أسفار الرؤيا) التي يقول فيها: قد طال بي يا سيدي زمن الغياب وحسوته دمعاً يمازجه اغتراب جفّت ينابيعي وجافاني الصواب يا سيدي ما زلت في دربي أسير إلى السّراب كيف الوصول إلى مواردك العِذاب؟ يا سيدي ما زلت في السّفح السَّحيق وغايتي أدنو قليلاً من سناك أرنو إلى المجد المؤثَّل في ذراك ويشكو الشاعر حال أمته ويسأل الله ليتداركها برحمته. والشاعر فيما يبدو نشأ نشأة إسلامية محافظة غرست فيه شعوراً ومعاني لم تستطع تقلبات الحياة الكثيرة أن تنال منها على قوَّتها إلا في جوانب سطحية، أما الجوهر فبقي مصوناً ينبو عن المؤثرِّات العارضة، والجوانب السّطحية هي التي عبَّر عنها شعر القسم الأوَّل، أمَّا القسم الثاني فيعبر عن ذلك القلب الممتلىء بما لُقِّن في الصِّبا من قيم إسلامية يحرك ما سكن منها وقوفه في الأماكن المقدَّسة، فإذا هو هائم يتحرق إلى الله تملأه المواجد. وهذا الاستنتاج قد صرح الشاعر نفسه بفحواه في (سفر الأنا) من (أسفار الرؤيا)، قال: لم يبق لي إلا وصايا من أبي علّقت أحرفها على جدران قلبي في الأزل وأنا صبي.. حتى ارتحل وتلاوة قد أسكنتها خفقه أمّي، من السّور القصار أظلّ أذكرها، وفاتحة الكتاب وما عَلَّقَتْهُ التربية على جدران قلبه، وعلقته التجارب الدنيوية خارج قلبه، ربَّما اصطرعا في نفسه فوجد من ذلك قلقاً كما يقول: إني رضعت براءتي من ثدي أمّي في نقاوة برعمي وخطيئتي من ثدي دنياي ومن شفة كأحلام العسل وانصبّ في مجرى عروقي في دمي هذا المزيج من الشَّراب حتى تكوّن ما تكوّن مَن أنا أما اللغة في الديوان فهي على وجه العموم حسنة ومناسبة، وإن شابها أحياناً كما يشوب كلَّ شعر مهما سما قدر صاحبه في دنيا الأدب ضعف في شيء من المفردات والأساليب، وتفاوت في الأساليب نفسها، فبعض المفردات لم يستعملها شاعرنا استعمالاً دقيقاً على ما ينبغي له، بل صرفها إلى غير دلالاتها اللُّغوية من غير مجاز ولا كناية، وربما استعمل أساليب ومفردات عامية، وربما ركب أيضاً بعض الأساليب تركيباً غير صحيح أو غير قويّ. من ذلك مثلاً قوله: والقلب كابده توق (يريد خالطه توق)، واستعماله المدى بمعنى الأفق في قوله: أفق المدى (والمدى هو الغاية)، واستعماله التبتُّل بمعنى التضرُّع (والتبتُّل معناه الانقطاع)، واستعماله الحالمات بمعنى التَّائقات (والحلم غير التّوق)، واستعماله أسنى بمعنى بدا (والإسناء معناه الرفع)، وقوله: بعثرت قلبي إرباً وهو يقصد قطعته إرباً (وبعثر لا تعني قطع)، وقوله: نور السّنا (مع أن السّنا والنور مترادفان). كذلك استعمل عبارات لا يتضح معناها كقوله (عشنا وعاش الحب في هلاَّته). ومن المفردات العامة. يوشوش أي يُسَارَّ، والمفرود أي المبسوط، ويقرف أي يشمئز، ولاء بمعنى لا.ومن مظاهر ضعف التركيب اللغوي في بعض الأحيان مخالفة قواعد النحو في الابتداء بالنكرة دون مسوغ من عموم أو خصوص، وفي استعمال الضمائر على غير سماع أو قياس نحو (لستِ أنت أنا)، وفي اسقاط حروف الجر من حيث ينبغي لها أن تثبت نحو: فانهلي سرَّه (يقصد من سرِّه)، ومن مظاهر هذا الضعف، أيضاً تكرار العبارات المترادفة مثل (في كل ناد ومنتدى) و(إلى زوال ويفنى)، واستعمال العبارات الصحفية الدارجة نحو (وأخذت قراري) و(عبّرت عن) و(تَسَّربَتْ بمسام كوني) و(لماذا أنا دوماً أغار) و(شريكاً لحبّي) و(امرأة أنت بحقٍّ)، واستعمال عبارات لا يستقيم معناها مثل (قطعت أوردتي وريداً في وريد)، والوقوع أحياناً في شرك بعض الأساليب العامِّيَّة نحو (أم تلك يا ربي هي العاصفة) و(نادي على بابا) و(طُلِّي) و(الحواري)، واستعمال عبارات لا تُبين بعفوية ووضوح عن المراد مثل (أجيئك مثل نورسة إلى الأعلى من الأدنى إلى آفاقك المأوى) و(أنا محبوس في ظلّ مكان الإمكان) و(في هسيس الماء)، واستعمال صيغ من الأفعال على غير وجهها نحو (يتغلغلني)، (صمتي يتهامى)، والخطأ في الإضافة نحو (دنيتي) أي دنياي، و(بين شدوالوتر) وبين إنما تضاف إلى المتعدد.