مائة عام وهي تقف شامخة كحد السيد صامدة في وجه الظلم والقهر والتعنت. مائة عام وهي تتجرع الالم والمهانة لكنها ابداً ما كلت برسالتها النضالية. تعرضت للذل وللاعتداءات الجسدية داخل سجون التعذيب الاسرائيلية، ولكنها ابداً لم ترضخ، ولم تستكن من اجل ان تشرق شمس الحرية على ارض وطننا الحبيب. مائة عام وهي تستصرخ الكرامة العربية، وتناشد العرب أن يثأروا لكرامتها، لتكتشف ان لاهم له سوى الوقوف حداداً والخطابة في مآثر وبطولات الشهداء..!! وان «السكون» الذي يتميز به العرب منذ ستة عشر شهراً ما هو الا الحل الوحيد لتفريغ الآذان من المقولات التي لم تتوقف عن الدوي كالطبول الفارغة منذ عشرات السنين...!! فكان لابد من الاغتسال من ادران الزمن الصوتي الممتلئ بالادعاء والورم والوهم والانتفاخ..!! من اجل فلسطين جادت بالزوج والابن والحبيب ثم ضحت بالروح. انها البطلة الشهيدة وفاء ادريس التي جسدت بروحها الطاهرة ودمائها الزكية نضال وجهاد المرأة الفلسطينية في التاريخ بحروف من نور، وتعيد للاذهان دور المرأة المميز في مقاومة المحتل. لقد احتلت المرأة الفلسطينية مكانا بارزا ومميزا في النضال الوطني بكافة اشكاله، وبدأ نشاطها في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، فشكلت مجموعة من النساء لجان اسعاف، ولجاناً لجمع التبرعات للوفود الفلسطينية التي كانت ترسلها الهيئات القومية آنذاك للدفاع عن الوطن ومواجهة الخطر الناجم عن وعد بلفور عام 1917م، وكانت «ثورة البراق» عام 1929م نقطة تحول وبداية عهد جديد، وذات اثر عميق في حياة المرأة الفلسطينية التي وجدت نفسها امام المسؤولية الملقاة على عاتقها، فقد اعتقلت سلطات الانتداب البريطاني المئات من الرجال وهدمت المئات من البيوت، ويتمت الآلاف من الاطفال الذين اصبحوا بلا معيل، ولم تستطع المرأة الفلسطينية ان تقف مكتوفة الايدي وان تظل صامتة امام الظلم الفادح الذي حل بابناء شعبها الفلسطيني، فقامت ولأول مرة في تاريخ فلسطين بعقد مؤتمر نسائي في مدينة القدس بتاريخ 26 اكتوبر عام 1929م حضرته ثلاثمائة امرأة فلسطينية من القدس ويافا وحيفا وعكا وصفد ونابلس ورام الله وجنين وغيرها، فكان هذا المؤتمر بؤرة الحركة النسائية في فلسطين، حيث الهدف منه تنظيم الحركة النسائية في فلسطين للعمل على انقاذ الوطن ومساعدة العائلات المنكوبة. وفي الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م اثر الاضراب العام الذي شمل جميع مدن وقرى فلسطين اسهمت المرأة الفلسطينية في جمع الاموال لعائلات الشهداء وعائلات الثوار التي خرج ابناؤها للجبال للاشتراك في الثورة على الاحتلال البريطاني، وشاركت في نقل الطعام والماء والسلاح الى الثوار في الجبال بالاضافة الى تزويدهم بالضمادات والادوية لاسعاف الجرحى وقد جاهدت بعض النساء جنباً الى جنب مع الرجال في المعارك، وفي خضم مشاركتها بالكفاح المسلح من اجل التحرير ومقاومة الاحتلال البريطاني لفلسطين قدمت أولى الشهيدات في عام 1936م، كانت المرأة الفلسطينية تودع الثوار بالزغاريد لتلهب حماسهم وتحثهم على التضحية والاستماتة في الدفاع عن الوطن، وحين يعود الثوار وهم يحملون الشهداء تستقبلهم بالزغاريد لتعلن اعتزازها وفخرها بأبنائها. لم تخف المرأة الفلسطينية ولم تجبن، ولم تتردد في التضحية من اجل الوطن، فقدمت مالها وحليها من اجل شراء السلاح للدفاع عن الوطن، وكانت بعض النسوة يشترطن ان يكون مهرها بندقية. وبعد نكبة عام 1948م، ضاعفت المرأة الفلسطينية جهودها لتخفيف آلام العائلات الفلسطينية المنكوبة التي اضطرت بسبب الارهاب الصهيوني الى الرحيل عن مدنها وقراها. ومع اتساع نطاق مشاركتها في النضال الوطني وتعاظم فعاليتها، ازداد حجم تضحياتها وهي بذلك اثبتت قدرتها على التفاعل مع مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية مما أكسبها مكانة مميزة في تاريخ نضال المرأة العربية والعالمية في النضال ضد الاستعمار والاحتلال والاضطهاد. وفي زمن الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م وصلت المرأة الفلسطينية الى درجة من النضج الفكري والوعي السياسي ادت الى ادراكها لاهمية النضال من اجل الوطن، فقد تعاظم كفاح المرأة الفلسطينية المسلح، واصبح تحرير فلسطين هاجس جميع فئات الشعب، فحملت المرأة السلاح لتدافع عن وطنها، واشتركت في الكفاح المسلح ضد الاحتلال رغم علمها ان ذلك قد يتسبب في هدم منزلها وتشتيت عائلتها وتعرض افرادها للتعذيب، بالاضافة الى تعرضها للسجن مما يؤدي الى حرمانها من رعاية اطفالها، ولم تستطع ان تتصف بالسلبية واللامبالاة ازاء ما يجري حولها، فقد شعرت ان الاحتلال يهدد كيان شعبها ووجوده على ارضه لذلك ناضلت لاجل تحرير وطنها من الاحتلال. لقد وقفت المرأة الفلسطينية في الصفوف الاولى، وشاركت في العديد من العمليات العسكرية داخل فلسطين وخارجها، من القاء القنابل اليدوية على السيارات العسكرية، وزرع المتفجرات في اماكن التجمعات الصهيونية، الى إلقاء قنابل المولوتوف على الدبابات الاسرائيلية. وقد اصيبت بعض النساء اثناء قيامهن بعمليات المقاومة فمنهن من فقدت عينها اويدها اوكلتيهما ومنهن من اصيبت اصابات بليغة بشظايا المواد المتفجرة ومنهن من استشهدت اثناء تنفيذ العملية او الاعداد لها. وتحملت المرأة الفلسطينية صنوف العذاب في المعتقلات الاسرائيلية من اجل نيل الحرية والاستقلال. وفي زمن الانتفاضة المباركة الاولى التي اندلعت في التاسع من ديسمبر 1987م، اصبح لدى المرأة الفلسطينية قناعة ذاتية بدورها النضالي وبضرورة ممارسته بكل ثقة ووعي ودون خوف، حيث اتسع نشاطها العسكري والسياسي والاجتماعي. لقد احدثت الانتفاضة تأثيراً بالغاً على صعيد تكوين الشخصية النسائية الفلسطينية، فكان للمرأة المشاركة الفعالة على جميع الاصعدة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والسياسية والنضالية، وقدمت العديد من التضحيات في سبيل الحفاظ على هويتها الوطنية، وقد اختفت المعوقات التي تعيق المرأة عن العمل السياسي. لقد ظهرت المرأة الفلسطينية كأنها الجدار الواقي لصد رياح الاحتلال، ودفعت الانتفاضة بالمرأة في الاراضي المحتلة للصفوف الاولى، فمنذ اللحظة التي خرج فيها الاطفال والشبان الى الشوارع يرجمون جنود الاحتلال لحقت بهم النساء يلقين الحجارة على القوات الاسرائيلية بحقد مزدوج واحيانا تجاوز حقدهن ثنائيته، فهن يرجمن الاحتلال وما يمثله عندما يرجمن جنود الاحتلال بحجارتهن ويدفعن رصاص الصهاينة الموجه الى صدور الصبية والمتظاهرين او يدافعن عن اخ او اب او زوج في زنانين الاحتلال ومعتقلاته وكان اداؤهن مذهلا باستمرار. كثيرات من النساء ممن قمن بالنضال على درجة كبيرة من الاهمية، فمنهن من يساندن القوات الضاربة ويخلصن الشباب من بين انياب الجنود، واخريات يواجهن النقص في المواد الغذائية الناتج عن الاضرابات وحظر التجوال، والقيام بمساعدة عائلات الشهداء والجرحى ونقل المياه لاطفاء القنابل المسيلة للدموع التي يطلقها جنود الاحتلال، ونقل الحجارة والزجاجات الفارغة الى الشبان في المواقع الامامية اي من هم في حالة مواجهة مع جنود الاحتلال. وشاركت المرأة في المهمات الاكثر خطورة مما يتجاوز وظائف ومهمات المرأة التقليدية مثل اختراق حظر التجوال والحصار العسكري المفروض على منطقة معينة والخروج في المسيرات والمظاهرات، وتنظيم الاعتصامات وتشكيل اللجان التي تنبع من طبيعة المهمات النضالية مثل لجان العمل النسائي ولجان الدفاع عن الاسرى والمعتقلين ولجان تقديم المساعدات للاسر المنكوبة المتضررة من سياسات الاحتلال وغيرها. وفي مرحلة طعن جنود الاحتلال والمستوطنين بالسكاكين كان للمرأة الفلسطينية دور بارز في هذه المرحلة، فعشرات من هذه العمليات قامت بها نساء وفتيات. وجاءت انتفاضة الاقصى الحالية لتضيف المرأة الفلسطينية سفرا جديدا الى سجلها الخالد من خلال تصديها البطولي لقوات الاحتلال جنبا الى جنب مع الرجل مضحية بالزوج والولد والروح فداء للوطن وحريته وكرامته. وفاء ادريس: من بين دماء آلاف الشهداء، ودموع الثكالى والأرامل والايتام، ومن انات الجرحى والمعاقين، وآهات الاسرى والمعتقلين، تقدمت الصفوف لتثأري لكل هؤلاء من عدونا الابدي والازلي، ولتعيدي لنا امجاد شهيدات الوطن.. آمنة الاخرس وشادية ابو غزالة، ومنتهى الحوراني ولينا النابلسي ودلال المغربي، وتغريد البطمة وعائشة البحش والهام ابو زعرور وخديجة شواهنة وفوزية ابو جزر والمئات من الشهيدات اللائي روين بدمائهن تراب وطننا الحبيب. وفاء ادريس: ونحن نستعيد مسيرة نضالك مسيرة نضال المرأة الفلسطينية لا نملك الا ان نردد: رب «وامعتصماه» انطلقت ملء افواه البنات اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم..!! كاتب وصحفي فلسطيني الرياض