ألقى الرئيس الأمريكي عبئًا كبيرًا على عاتق حرس الثورة، بل وضع فيلق القدس في مهمة لا تقبل التثاؤب أو الغفلة. فمن جانب، على إيران حماية الأرواح الأمريكية حتى 20 يناير 2021م، ومن جانب آخر، فإن كانت أمريكا بيتت النية لضرب المفاعلات الإيرانية فلن تغلب في تجنيد طرف ثالث يهيئ الذريعة لتسديدها من تحت الماء من أكبر غواصة أمريكية ظهرت فجأة في الخليج العربي (يو إس إس جورجيا- أوهايو) المحملة ب154 صاروخًا من طراز توماهوك، أو من فوق السحاب من إحدى طائراتها العملاقة بي 52 المتربصة في إحدى القواعد القريبة من المنطقة. المخاوف الأمريكية من انتقام إيراني في الذكرى الأولى لمقتل الإرهابي قاسم سليماني في 3 يناير 2021م ليس عندي مبررة. وربما استنتج المخطط الأمريكي من دراسته إرث العزاء والبكائيات السياسية السنوية، ودورات التأبين التي يقيمها حسن نصر الله أن الثأر الإيراني قادم لا محالة. وللتقليل من أهمية هذا الاستنتاج، فإن قائمة الإرهابيين الذين تمت تصفيتهم، دخل إيران وخارجها تطول، ومع ذلك فإن حرس الثورة لم يحاول الانتقام لواحد منهم بشكل يجعل المخاوف الأمريكية مبررة. لسوء حظ إيران أنها أصبحت في هذه الفترة الحرجة في تاريخ أمريكا ضمن بدائل محدودة على طاولة رئيس يرفض الهزيمة ويتشبث بأي ذريعة تبقيه في البيت الأبيض أو في دائرة الاهتمام المحلي والعالمي في السنوات المقبلة. يقول بعض المهتمين بتحليل أنساق تصرفات الرئيس الأمريكي إن استغراقه في الضجيج ينتج عنه فعل هزيل، وأن الخشية من صمته يفوق الخوف من صوته الهادر، وهو إلى حد ما صامت، خلال تلك التغريدة التي أطلقها محذراً إيران من قتل أمريكي واحد، فيما تولى مستشاره للأمن القومي روبرت أوبراين التصعيد. ردود الفعل الإيرانية حذرة فيما عدا تصريحات مقتضبة لوزير الخارجية الإيراني والمتحدث الإعلامي باسم وزارته، وفيها تحذير من عواقب أي مغامرة أمريكية. تبدو تلك التصريحات معقولة، للاستهلاك الداخلي ولأذرع إيران الإعلامية، لكن على الصعيد العملي يبذل فيلق القدس وقائده إسماعيل قاآني جهودًا مضنية للتأكد من أن جميع المليشيات في العراق وسوريا ولبنان تحت السيطرة، وفوق ذلك تم تكليفها بمهام استخباراتية للحيلولة دون تورط طرف ثالث في شن هجمات على أمريكيين باسم حرس الثورة أو ميليشياته. قاآني زار العراق خلسة، ويبدو أنه سيستمر في متابعة ترتيبات حماية الأرواح الأمريكية على الأراضي العراقية والسورية واللبنانية بعد أن ضمن أن حرس الثورة لن يطلق رصاصة واحدة في الذكرى السنوية لمقتل سليماني. كما ينشط لوبي إيراني مقرب من المرشد الأعلى في التواصل مع البيت الأبيض في محاولة تجنيب الثورة لدغة سامة تقضي عليها. سليماني أصبح قبل مقتله عبئاً على مستقبل النظام، ولا أظن أجنحة كثيرة ومنها الرئاسة والخارجية الإيرانيتين إلا وقد تنفستا الصعداء برحيله عن المشهد المحلي والدولي، كما أن مؤسسة المرشد الأعلى تدرك خطورة ما لديه من أسرار وما ارتكبه من جرائم، وتعلم أن تسوية لوضع إيران مستقبلاً مع أمريكا وإسرائيل ودول المنطقة لا يمكن أن تتم بوجوده على قيد الحياة. أي أن الثورة تتخلص من بعض أثقالها، ولن أذهب إلى مناقشة مدى تورط أجهزة إيرانية في تسريب إحداثيات موكبه. شخصياً لا أتوقع انتقال الخطاب المتأزم إلى فعل عسكري، ولا أظن أن حرباً تلوح في الأفق ولا أتمناها. ومن يتابع وكالة الأنباء الرسمية وبعض الصحف المحلية الإيرانية لا يجد فيها أي تلميحات لعمليات انتقامية بمناسبة الذكرى الأولى لمقتل قاسم سليماني، ولا ثمة تهديد بشيء من ذلك القبيل. أفهم جيداً الحذر الإيراني الذي تبديه صحيفة مثل كيهان التي تصدر عن الجناح المحافظ، فالتعامل مع رئيس أمريكي لا يمكن توقع ردود فعله ولا حتى حدود ذلك الفعل يجعلها تحت ضغوط شديدة داخليًا وخارجيًا. يعي الإيرانيون أنهم لن يستطيعوا الرد على أي هجوم أمريكي مسلح؛ وهذا العجز سيسبب لها حرجاً بالغاً في الداخل والخارج، لكن أي رد على القصف الأمريكي، إن حصل، سيعرض إيران لهجوم أقوى يستهدف ولاية الفقيه عينها، وسيجد له قبولاً وترحيباً في الداخل الإيراني، وقد تكون نهاية مشروع ولاية الفقيه على يد رئيس أمريكي على وشك الرحيل.