والسؤال الذي يطرح نفسه في أبيات بشار هو ما المعنى الذي تتضمنه الأبيات؟ هل هو المعنى الظاهر من الأبيات، وهو أن ربابة تصب الخل بالزيت، ولها عشر دجاجات، أم أن المعنى ما قاله بشار وهي أنها جاريته لها عشر دجاجات تجمع له البيض وتحفظه عندها، فهذا عندها من قولي أحسن من «قفا نبك من ذكرى». وموازنة هذه الأبيات ب»قفا نبك من ذكرى»، تبعث السؤال من جديد عن وجه الموازنة أهي من جهة جزالة الشعر ومتانته وجودته، أم من جهة موضوعه وهو الغزل، وكأن ربابة لا يهمها الغزل ولا تحفل به، ولكن السؤال الذي لم يطرح هو ما حاجة ربابة هذه وهذا حالها إلى الشعر أصلاً، ولماذا عمد بشار إلى أن يقول فيها شعراً إلا إذا كان من قبيل الممالحة والظرف، والتندر؟ وهذا الأخير هو الذي يبدو لي، ويظهر من جواب بشار على خلاد بن مهرويه على سؤاله في تفضيلها البيتين على «قفا نبك من ذكرى» بالرغم من إجماع المتقدمين والمتأخرين عليها، ما يعني أنها لا تفهم شيئاً، وهذا ما يعني أيضاً أنهما مناسبان لمقام التندر والظرف خاصة وأن الغاية هي جمع البيض وحفظه له، ومكافأتها على ذلك المكافأة التي تناسبها عند بشار الضرير. فهنا لدينا معنيان: المعنى الظاهر وهو الحديث عن ربابة وهو الذي فهمته ربابة، والمعنى الباطن وهو أنه يريد أن يحثها على جمع البيض ويتظارف عليها في الوقت نفسه. وهذا التعدد في الفهوم هو ما يكسب النص قيمته وبلاغته على رأي أبي عثمان. وأما الجانب الآخر من الحديث عن البلاغة عنده فهو المتصل بالخطابة بمعنى الإقناع والجدل، وفيه يتحدث عن الحجة، وقيمتها في إيصال المعنى، وهذا مداره المناظرة، حيث «منازعة الرجال، ومناقلة الأكفاء، ومنضلة الخصوم، ...ومقارعة الأبطال». وغير خاف ما تحمله هذه الألفاظ (المنازعة، المناقلة، المناضلة، المقارعة) من معنى القوة والإفحام والغلبة، وهي معانٍ لا يمكن أن تحدثها البلاغة بصورتها البيانية مهما أوتيت من جمال صورة وعذوبة ألفاظ، وجدة تركيب، وحسن نظم، مما يتصل بالشعر أو ما يسميه النقاد المحدثون بالشعرية. وهذه االمناظرة والمجادلة والحجاج تظهر في تتابع الحجج، واستكثار الشواهد كما نجد في رسائل أبي عثمان نفسه التي يرد فيها على خصومه، أو يحشدها لإثبات فكرته. وقد تناول أبو عثمان هذا النوع من البلاغة، فذكر خصائص الحجة، وما ينبغي أن يكون عليه الحال عند استعمالها، والمواضع التي ينبغي أن تستعمل فيه، فيقول: «جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة». ف»البصر بالحجة» القدرة على الكشف عن ملمح الاحتجاج بالفكرة، أو معرفة الدليل وهو الجانب الذي يستدل به على صحة الفكرة أو خطئها، ولا يكون الاحتجاج إلا عند المنازعة، أو الحلول في مقام المنازعة، وهو إنزال غير المنكر منزلة المنكر كما كان يسميه القدماء. وأما المعرفة بمواضع الفرصة، فهو إكمال للبحث في «مقام المنازعة»، وذلك أنه يعود إلى تقدير المنشئ للموضع الذي يصبح فيه الإدلاء بالحجة نافعاً للكلام عوضاً عن إهدارها في موضع لا تكون صالحة فيه، وهذا يعني أنه يقدر طريقة تنظيم القول وترتيبه، كأن يبدأ بالحجة ويبني ما يأتي من قول عليها أو يؤخرها ويجعلها خاتمة قوله. ولا يقتصر هذا القول على الحديث الشفوي بل يتجاوزه إلى كل قول سواء كان شفوياً أم كتابياً، خاصة وأن المتحدث -أباعثمان- كاتب في المقام الأول، شرقت كتبه وغربت بين الناس، وتداولها المتأدبون، نجد ذلك في رسائله التي يرد بها على المخالفين له في المذهب، حيث يحشد الحجج، وينضدها، مما لا يعد في البيان والإفهام، بقدر ما يعد في منازعة الخصوم ومناقلة الأكفاء كما يقول. وتبدو ملامح هذا التنظيم في حديثه عن أنواع استعمال الحجة، واستشهاده بالمقولات التي توضح أن التصريح بالحجة قد يكون في بعض المواضع أضر من الكناية عنها، وذلك في مواضع يكون فيها الجدال مع من هو أعلى مقاماً من أن يفحم ويلجم، وقد يعود ذلك وبالاً على المتحدث، فتكون الكناية عنها أو الإضراب صفحاً عن ذكرها أبلغ من استعمالها وأقدر على الوصول إلى الغاية من الكلام بها. وهذه حال يلتقي فيها الوجهان من البلاغة عند أبي عثمان؛ الإبانة والإفهام، والجدال والإقناع، حيث تحل الإبانة والإفهام، محل الجدال والإقناع في المقام، ويقوم بعمله، ويصيب غرضه، مع استقلال كل وجه بنفسه في الأصل والوظيفة، والخصائص، وهذا التداخل في المقام دفع بعض الباحثين إلى الخلط بينهما واعتبارهما وجهاً واحداً.