الكتابة عن الناقد الأدبي، والقارئ الجمالي، وبالضرورة المُطلِع الثقافي العميق، محمد العباس مهمة ليس من السهل استدعاؤها في مضمار كلمات قليلة، وأخشى أن أقول إن حملها على جناح السرعة لن يكون ذا فائدة تُذكر. لكني سأحاول أن أتطرق إلى إحدى الميزات المهمة التي لحظتها في مشاغل محمد النقدية عن الرواية تحديداً، وإن كانت دائرة اهتمامه تتسع لغير مجال فني وأدبي وثقافي وفكري، وعلى هذا أقول إن العباس لا يقرأ العمل الروائي من وراء متراس الناقد الجهم الذي يتعامل مع النص من واقع خبرته الطويلة والمتعبة في إرهاق النصوص السردية بالإدخالات الاستقرائية الجافة بحيث تحتاج القراءة النقدية نفسها إلى تبرير نقدي حول وجودها تحت مسمى نقد. الذي لحظته في جل الإسهامات النقدية التي كتبها العباس وتيسرت لي قراءتها هو أنه غالباً ما ينتقي العمل الروائي الذي يحمل مبررات مقنعة لجعله محل اهتمامه، أي أنه يقيس اشتباكه معه من كثافة ما يحمل النص من جاذبية موضوعية، وأيضاً من نسب جمالية يمكن رصدها من زاوية الفنان كما يمكن ملاحظتها من مكمن الناقد. العباس هو هذا بالضبط، إنه ناقد وفنان في الآن نفسه. لذلك تتهادى كتابته النقدية بإيقاع جمالي يوازن بين اللغة من وجهها الأدبي ذي القيمة الرفيعة واللغة من وجهها الآخر الذي يعنى باستنطاق النص وفك شفراته بممكنات بلاغية غير معتسفة. أظن أن ارتفاع مستوى التيقظ الجمالي عند العباس يمنحه مرونة كبيرة في محاورة النص حتى في حدوده المستغلقة دون استعلاء وأيضاً دون تواضع فج. الميزة الأخرى ترتبط ببعده عن المخاشنات الثقافية التي عادة ما تقع بين المثقفين في قضايا قابلة لتسريع الحمية الثقافية بحق أو بباطل. وهذا مما يحسب له في الواقع، فالفترة الطويلة التي طوف خلالها في ملتقيات وندوات كثيرة في الداخل والخارج لم تبرزه ك «بطل مواجهات» بالمفهوم الشقي ولم يرد هو ذلك، والآراء الثقافية التي عاركها أو احتك بها عمداً أو مصادفة خلال هذه الفترة لم تخرجه عن مسار الناقد الجاد والفنان اليقظ. ** **