صدر كتاب طه حسين (الشعر الجاهلي) عام 1927 وأثار ردود فعل مدوية توَّجها رد الأزهر الذي أفضى لمنع الكتاب ، ثم أصدر طه حسين كتابه الأدب الجاهلي ، وهو لا يختلف عن الأول من حيث العنوان فحسب بل يختلف جذريا في الرؤية وفي الحكم وطريقة التعامل مع النص الجاهلي ، وهذه حادثة كبيرة في تغيير الموقف في المنتج الشعري نفسه، حيث مال الثاني إلى تقبل المنتج والدخول في علاقة إمتاعية معه تجلت فيها ذائقة طه حسين الأدبية، وكأنه يتصالح مع النص وذاكرة النص ومع علاقته العقلية والذوقية مع النص ، وبعد هذا تكررت حالة ذات شبه كبير مع هذه الحالة، حيث وقف طه حسين موقفا سلبيا من شعراء المهجر ونقدهم بشدة في نواقص تعتري لغتهم مما جعله يقلل من شعرهم ومن مهارتهم ، على نقيض العقاد الذي احتفل بالتجربة المهجرية وعدها فتحا شعريا نوعيا في الشعر العربي الحديث ، مما جعل طه حسين يراجع نظرته للشعر المهجري ويركز على مميزاته متجاوزا عن هفواته اللغوية والعروضية ، ويتداخل مع هذين الموقفين موقفه من رواية (السد) لمحمود المسعدي عام 1955 ، حيث كتب كتابة ناقدة قاسية عليها وأرسلها للمؤلف دون أن ينشرها وبادر المسعدي بإجابة طه حسين بخطاب شرح فيه ألغاز روايته ودلالات بعض صيغها الغرائبية؛ مما جعل طه حسين يعدل موقفه من الرواية ويكتب كتابة تنم عن تقدير للنص واحتفال به ، وقد نشر المسعدي الرسائل الثلاث في مطلع روايته مما جعل القراء يرون الحدث كاملا . وفي الخلاصة فإن كثرا ظنوا بطه حسين الانكسار والتراجع أمام سطوة الأزهر في حادثة كتابه عن الشعر الجاهلي ، ولكن القصص الثلاث مجتمعة تكشف أن قدرات طه حسين على تغيير موقفه هي قدرات خارقة من حيث الأمانة العلمية والشجاعة الأخلاقية ، وإذا تبين له وجه غير الوجه السالف فإنه يلتفت إليه ، ولا يخجل أو يكابر في التعنت والتمسك بالرأي القديم ، وهذه مهارة تحتاج إلى عقل كبير يتصالح مع نفسه ولا يبالي إذ ينقد نفسه ، ونقد النفس هو أعلى درجات النقد المعرفي وهو أدق معاني أخلاقيات المعرفة ، وهذه صفات نادرة جدا في البشر بعامة .