المفهوم الأوسع للعصبية عند ابن خلدون: فإن مما يؤكد عليه المنظرون لحركة التاريخ ذلك الارتباط القوي بين الأفكار وقيام الدول والحضارات ونهوض الأمم، وقد أكد على ذلك ابن خلدون في مقدمته حين ذكر أن الدول تقوم على عصبية؛ والعصبية وإن كانت وفق تعريف ابن خلدون لها هي النعرة للقرابة، إلا أن حقيقة العصبية التي تنشأ عليها الدول أوسع من ذلك بكثير، وما العصبية للقرابة إلا واحدة من أسباب نشوء الدول؛ بل قد تكون أضعفها، وأما المعنى الأوسع فهو الاتحاد على فكرة جامعة، أي فكرة ذات جذب تستطيع أن تُجَند لأجلها العدد الغفير من الخلق الذين يُمكن أن تتأسس بهم دولة، يُغالبون الناس ويقدمون أنفسهم وأموالهم من أجلها، وإذا بلغت القبلية حدّ أن تتكون عليها فكرة يتحمس الناس لها، فيمكن حينئذ أن تتأسس الدول عليها، أما التعصب المجرد للقبيلة فقد يكون هادماً للدول لا مؤسساً لها؛ فقد كان التعصب للقبيلة في أشد درجاته في العصر الجاهلي في جزيرة العرب، ولم تستطع هذه العصبية أن تُقيم دولةً؛ بل الدولة الوحيدة التي ثَبت تاريخياً قيامها في جزيرة العرب في العصر الجاهلي ولدينا أخبار مجملة عنها، هي دولة كِندة الشمالية، ومعلوم أن كِندة قبيلة يَمنية ليس لها وجود في وسط الجريرة العربية وليس لها عصبية، ولم تحكم مناطق نفوذها في نجد وشمال جزيرة العرب بقوة عسكرية؛ وإنما كان ذلك بفكرة سيطرت على شيوخ قبائل مَعَد وتتلخص في تمكين العدل والأمن عن طريق الوفود إلى ملك اليمن والالتماس إليه أن يولي عليهم ملكاً يعطونه الشاء والبعير في مقابل أن يأخذ الحق لضعيفهم من قويهم؛ وقد نجحت هذه الفكرة في بناء المملكة، لكنّ تخلِي ملوك كِندة عنها واعتمادهم على الاستقواء على القبائل بعلاقاتهم بالدول الكبرى آنذاك، الفارسية والبيزنطية نابذين أصل العقد الذي كان بينهم وبين العرب أدى إلى انهيار الدولة، وقد صاحب هذا التغير تَغَيّر في الحلف الاستراتيجي أيضاً حيث انتقلت دولة كندة من حلفها مع التبابعة إلى التنقل بين البيزنطيين والفرس، ولم ينتفع آخرُ ملوكها وهو الشاعر امرؤ القيس بن حجر بمحاولاته الاستنصار بالبيزنطيين لاستعادة عرشه، كما لم يستفد جده عمرو من تغييره دينه والانتقال إلى الزرادشتية من أجل إرضاء الفرس. نريد من هذا المثال الوصول إلى خطأ تفسير كلام ابن خلدون العصبية التي لا تقوم الدول إلا بها بالاقتصار على عصبية القبيلة؛ ولو تقدمنا إلى التاريخ الإسلامي لوجدنا الدولة الأموية التي كانت وقتها أقوى دولة في العالم منذ قيامها حتى سقوطها لم تقم على عصبية القبيلة، وأي عصبية لبني أمية وهم فرع من بني عبد مناف من قريش؟ وكان أبناء عمهم من بني عبد مناف، الذين هم في الشرف القبلي والمكانة الدينية أعلى كعباً من بني أمية مناوئين لهم؛ كما لم تكُ قريش راضية عن سلطانهم، وقد حاولوا أن يجعلوا من النزارية عصبية لهم، فلم يفلحوا في ذلك وكان أولَ خصومهم نزارٌ أنفسهم، وحاولوا استبدال اليمن بنزار في عهد الوليد بن يزيد ومن جاء بعده فلم يفلحوا؛ وإنما قامت رئاستهم على العصبية للأفكار؛ وكانت الفكرة الأولى التي حققت الاجتماع تحت رايتهم أولاً: مظلومية عثمان رضي الله عنه وكونهم أولياءه، فقد كانت هي دعوى معاوية رضي الله عنه، ثم دعوى مروان بن الحكم مؤسس العهد الأموي المرواني، إلَّا أن مروان ساعده أمر آخر وهو الفراغ السياسي في الشام حيث العدد والعُدّة والمنعة، إذ لم يكن في الشام إذ ذاك أكفأ منه للقيام بهذا الأمر؛ وقد عرض الخلافة على عبد الله بن الزبير الحصينُ بن نمير السكوني، قائدٌ يزيد، بعدما وصله خبر موت يزيد، وهو على حصار مكة، وقال له ائت معي إلى الشام أملكك رقاب العرب؛ لكن ابن الزبير رضي الله عنه أبى، وقد كان الرأي والله أعلم ما نصح به الحصين، لأن الشام إذ ذاك مجتمع القوة والعمل بأحاديث السمع والطاعة؛ وأراد مروان بن الحكم أن يبايع لعبد الله بن عمر بن الخطاب في الشام؛ لكنه رضي الله عنه أبى، فتحقق الفراغ السياسي، ولم يبق في الشام من تجتمع عليه الكلمة غير مروان فاجتمع عليه الناس ثم على ذريته، وكانت فكرة الفتح والجهاد هي سندهم في استمرار الملك والطاعة لهم، فلما انغلقت الدولة عن الجهاد بدءًا بيزيد الناقص كان ذلك من أعظم أسباب رواج الفكرة المضادة وهي الرضا من آل البيت والتي كانت معقدَ حكم العباسيين ومصدر قبولهم، إلى أن رأى الخليفة المعتصم تغيير العناصر القومية التي قامت عليها الدولة وأثبتت حماستها لفكرتها، وكانت تُظهر لها الهيبة وتُكِنُّها، وهم العرب والفرس، والانتقال منهم إلى العنصر التركي الذي كان حديث عهد بالإسلام، ولم تكن الفكرة التي قامت عليها الدولة تعني لهم شيئاً؛ بل لم يكونوا يعرفون قيمة الدول ومانتها الدينية والحضارية حتى يحفظوا هيبتها، فما كان منهم إلا أن تحولوا سريعاً إلى أقوى معاول الهدم التي بقيت الدولة العباسية بعدها أشبه ما تكون بالزينة التي ليس لها أي أثر جوهري بقيةَ مدة حياتها وجعلت خلفاء بني العباس كاللعب بين يدي غلمان الجيش. فالعصبية للأفكار هي التي تُقِيم الدول وهي التي تُقعِدها، وأما العصبية للقبائل والأعراق فقد تُسهم في النشأة لكنها لا تُساعد على البقاء إلا إذا تطورت إلى فكرة كما هو الحال في ملوك أوروبا الذين يبقون في خطر الزوال ماداموا معتمدين على عناصرهم القبلية حتى يقوم البابا بإضفاء القداسة على هذا الحاكم أو الأسرة الحاكمة فيصبحون عائلة مقدسة، بمعنى آخر ينقلبون من عائلة إلى فكرة، وهي طريقة في استقطاب المحكومين كانت تستخدمها الشعوب القديمة في شرق آسيا وبلاد الرافدين، وحكاها القرآن الكريم عن نمرود العراق وعن فرعون مصر؛ وكثيرون يعتقدون أن ليس هناك بُعد لهذه الظاهرة القديمة أكثر من كونه طغياناً من الحاكم وجهلاً من المحكومين؛ لكن الأمر أبعد من ذلك، فهو تعويض عن فقدان الفكرة السياسية المؤهِّلةِ للبقاء، فيعمدون إلى ملء هذا الفراغ بالتعاون مع الكهنة لتأليه الحاكم، ومع وضاعة هذه الطريقة فهي تبقى مثالاً على إدراك السياسيين منذ أقدم العصور لضرورة العصبية للفكرة في بناء الدّول. أملك مثالاً مُهماً قد يُعترَض به على هذه النظرية الخَلْدُونية، وهو دولة المماليك، فهم يفتقرون للعصبية القبلية كما يفتقرون للعصبية للفكرة، ومع ذلك فقد كان زمن بقاء دولتهم من أطول الأزمان التي عاشتها الدول في التاريخ الإسلامي (من 648 حتى 922 ه) أي أقل من الثلاثة قرون بقليل، والحقيقة: أن دولة المماليك كانت نمطاً عجيباً في الحكم ونشوء الدول على مستوى التاريخ السياسي الإنساني؛ لكن ذلك لا يعني أنها كانت قائمة على على غير العصبية، فالتعصب للعنصرين التركي والشركسي، وزعم أهليتهما وحدهما للدفاع عن قلب العالم الإسلامي في مواجهة المد المغولي والمد الصليبي، كانت هي فكرة تكوين الدولة آنذاك، وقد ساعدهم تفردهم بالتأهل العسكري وإمساكهم دون سواهم بزمام الجيش، ومحافظتهم على التراتبية العسكرية فيما بينهم في استمرار الحكم بأيديهم حتى وقع الصراع بينهم وبين الدولة العثمانية التي تشترك معهم في كل مقومات عصبيتهم وتزيد عليهم بحداثة التجنيد وقرب العهد بالانتصارات على الصليبيين والصفويين اللذين كانا يُشكِّلان الخطر المحدق بقلب الأمة الإسلامية. كيف تقوم الدول على عصبية تجديد الدين وكيف تفشل؟ يبدو لي أن ما يعرف بنظرية ابن خلدون في العصبية التي قدّمنا الحديث عنها قد غدت بالسبر التاريخي حقيقة علمية في تفسير التاريخ؛ لكن مما يحسن أن يُدْرَس اليوم ما هي الظروف المساعدة التي تجعل من الفكرة عصبية تنجح في إقامة دولة؟ إذ إن الأفكار موجودة قبل قيام الدول وبعدها وفي أثنائها. وهذا صحيح فالأفكار وحدها لا يمكنها أن تُقِيم دُوَلاً إلا إذا تهيأت لها القوى الضرورية، وكم من أفكار أُريد لها أن تصنع دُوَلاً إلا أنها فشلت وفشل القائمون عليها وغالباً ما ينتج عنها فساد كبير ودمار، حيث تُتَبَنّى تلك الأفكار كشعارات لإسقاط دول قائمة؛ ومن أقوى هذه الأفكار فكرة إقامة الدين، وهي فكرة واحدة ذات شعارات كثيرة شديدة الجاذبية قوية التأثير، وهي أكثر شعار رفع في محاولات إقامة الدول وفي المقابل أكثر الشعارات فشلاً دون النجاح، ولو راجعنا تاريخ قيام أقوى الدول الإسلامية لوجدنا هذا الشعار غير موجود في كثير منها ومتنحياً أو ليس رئيساً في كثير منها أيضاً. فالدولة الأموية والعباسية والطاهرية والإخشيدية ودولة الأغالبة والأدارسة والأمويين في الأندلس والبويهيين والغزنويين ودول السلاجقة، والمغول في الهند، والمماليك، وغير هذه من الدول التي نجحت في التَّكَوّن لم تكن فِكرة إقامة الدين هي عصبيتها التي قامت عليها، وإن كان من هذه الدول من خدم الدين والعلم وعمل عملاً صالحاً، فلسنا هنا في مجال تقييم أداء تلك الدول في إقامة الدين وخدمته؛ ولكننا في وارد السؤال عن عصبية مؤسسي تلك الدول واجتماع الناس عليهم هل كان على أساس إقامة الدين وإنكار المنكر أم على عصبيات وأفكار أخر؟ وأقول ربما لا نجد مثالاً لمحاولات ناجحة سوى القليل ومنها: دولة المرابطين، ودولة الموحدين والدولة السعودية. أما المحاولات الفاشلة بهذه الدعوى فكثيرة جداً. فدولة المرابطين (433 حتى 539) قامت على دعوة الشيخ الفقيه العالم عبدالله بن ياسين الجزولي (ت451) لإحياء الدين الذي اندرس في الصحراء الكبرى حتى لم يعد الناس هناك يعرفون منه إلا الشهادتين، وكان من عوامل نجاحه: قوة الرجل وصدقه في دعوته، ويسر الإسلام الذي يدعون إلى تجديده وحيويته، وتلبيته لحاجات الروح والجسد، وقوة الأمراء الذين اختارهم ابن ياسين للقيادة السياسية والعسكرية، وهم: ، يحيى بن إبراهيم الجدالي (ت440ه) ويحي بن عمر اللمتوني (ت447ه) وأبو بكر بن عمر اللمتوني (ت453) ويوسف بن تاشفين (ت500ه) وهنا أمر مهم، هو افتقار منطقة المغرب والصحراء إلى دولة، إذ لم يكن في غرب إفريقيا بإسرها من غانا جنوباً حتى طنجة شمالاً دولة بالمفهوم الحاضرين للدولة، وإنما كانت إمارات قبلية، تتحقق معها حاجة المنطقة إلى دولة لا تقيم الدين وحسب، بل تصنع الأمن المفقود، وتحقق الوحدة، وهذا ما جعل المشروع المرابطي ينجح، إذ لم يقم في ظل دولة لا يشعر الناس مع وجودها بحاجة إلى التضحية من أجل المشروع الجديد، وهذه العوامل لم تجتمع في الحركات الكثيرة جداً التي فشلت في إنشاء دولة تحت شعار إحياء الدين. أما دولة الموحدين (539 حتى667 ه) فإن دولتهم قامت على دعوة الضال المضل مدعي المهدية محمد بن تومرت (ت524ه) وهي التي أسقطت. ودولة المرابطين وهي في عنفوان قوتها، ولم يمض على وفاة يوسف بن تاشفين سوى بضعة وثلاثين عاماً، ومن عوامل نجاحها مع كذب ابن تومرت في دعواه وصدق المرابطين: أن المرابطين عملوا حقاً على إحياء الشعائر الظاهرة من الصلاة والصيام ومظاهر العبادات، وأماتوا العادات المخالفة للدين وقمعوا المنكرات، وذلك كله في الصحراء التي هي موطنهم الأصل، وفي الحواضر الكبيرة والظاهرة وما إليها؛ لكنّ انشغالهم بتوحيد الأقطار ومجاهدة الخصوم، ورد أهل الفتن أذهلهم عن ثغرات ثلاث مهمة دخل منها ابن تومرت، وأشعر من خلال ولوجه منها بأن سيادة فكرته غدت حاجة تؤهلها لتأخذ مكان المرابطين. الأولى: عدم عنايتهم في دعوتهم الإصلاحية بالتوحيد، وتصحيح العقائد، بل وكَلُوا الناس في ذلك كله إلى سالف إيمانهم، واكتفوا بأن يعيدوهم إلى فعل الشعائر الظاهرة ونوافلها وينهوهم عن تعدي حدود الله الظاهرة أيضاً، وقد كانت كثير من قبائل المغرب الأقصى والأوسط مفتَتَنَةً بمذهب المعتزلة والخوارج الإباضية والخرافات الجاهلية من بقايا ما خلفته فيهم الدول السابقة، فلم يجد كل ذلك العناية المناسبة من المرابطين وعلمائهم، مع أنهم في أنفسهم وجيوشهم التي معهم على مذهب السلف رضي الله عنهم، إلا أنهم لم يكونوا يعتنون بأدلة مذهب السلف في التوحيد والإيمان ورد الشبهات التي يوردها أهل البدع عليه، ولا يعتنون به كمنهج للتربية. فجاء ابن تومرت يطرح شُبَه المعتزلة والأشاعرة في الأسماء والصفات ومسائل القضاء والقدر أمام العوام ليوهمهم أن ما عليه دولتهم وعلماؤها شرك بالله وتجسيم وتشبيه للخالق بالمخلوق يوجب قتالهم وهم به مرتدون وقتالهم أولى من قتال اليهود والمجوس، ثم يقوم بمناظرة العلماء أمام العامة؛ بل وفي مجلس علي بن يوسف بن تاشفين فلا يستطيعون رد شبهاته لضعفهم في ذلك وامتلائه هو بحجج المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة وإيراداتهم. الثانية: ضعف العناية بتعليم الأمة، فلم يكونوا يرسلون دعاتهم إلى القبائل الساكنة في الأحراش أو أعالي الجبال أو أعماق الأودية؛ بل لم يُعرَف لهم حركة مشهودة في إنشاء المدارس حتى في الحواضر التي يفتحونها، والمدرسة الوحيدة التي تُذكر في عهد يوسف ابن تاشفين هي مدرسة الصابرين ولا يعرف مكان بنائها (عصر المرابطين والموحدين، حسن علي حسن ص 401) فكان ابن تومرت يتعمد الذهاب إلى تلك المناطق كوادي تينمل فيستغل جهل تلك القبائل المعروفة بقوتها وبأسها فيلقي عليهم خرافاته وحيله وادعاءه تكليم الموتى وعلم الغيب وإظهار المعجزات فيتجندون معه بكل ما أوتوا من قوة. الثالثة: ضعف الجانب الاستخباراتي في الدولة، وانشغال أُمرائها وصلحائها بحسد الأسرة الحاكمة على ما آتاهم الله تعالى من الملك، مما أخرهم عن ضرب الفتنة بيد من حديد في مهدها، بالتوعية أولاً والعقوبة والاستباق العسكري ثانياً، فلم يفطنوا لها إلا وقد أصبحت جيوش الموحدين على مشارف عاصمتهم مراكش ولله الأمر من قبل ومن بعد. الدولة السعودية وتجديد الدين: تحدثنا عن دولتين في معرض التمثيل للدول التي قامت على ما يُطلق عليه وفق مصطلح ابن خلدون: العصبية للدين؛ ونُسَمّيه نحن هنا فكرة تجديد الدين وإحيائه، أولى هاتين الدولتين كانت مثالاً للصدق في رفع هذا الشعار والنجاح النسبي في المشروع، والأخرى كانت مثالاً للضلال في رفع هذا الشعار، ونجحت في إنشاء الدولة على أنقاض دولة المرابطين، لكنها لم تنجح في الحفاظ على أفكار محمد بن تومرت التي نشأت عليها، لما فيها من الخرافة التي لا تتناسب مع دولة حَضرية حديثة، الأمر الذي جعل الأمير يعقوب بن يوسف (ت595ه) يصحح كثيرأ من أباطيل المؤسس الفكري للدولة، ويعود بالناس إلى الكتاب والسنة إلى حد كبير. أما الدولة الثالثة فهي الدولة السعودية، وهي عند الحديث عن عصبية التكوين دولة فريدة لا يُشابهها أو يقاربها دولة مما مر في تاريخ الإسلام؛ وذلك أنها قامت على العصبية لأمرين: العصبية للتوحيد والعصبية للوحدة، فالتوحيد إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والوحدة جمع المسلمين من أبناء جزيرة العرب على كلمة وراية واحدة، وساعد في نجاح نشأتها عام 1157ه أنها وافقت فراغاً سياسياً وانهياراً أمنياً وضياعاً عقدياً ودينياً؛ ورفعت بقوة وصدق شعار التغيير لكل ذلك وأن تستبدل به وحدةً سياسية، وقوة أمنية، واستقامة ورسوخاً عقدياً ودينياً، الأمر الذي جعل منها حاجة ملحة لجميع أبناء جزيرة العرب؛ لذلك كان نجاحها وتوفيق الله لها أمراً حتمياً أدركه قبل وقوعه السابرون لسنن الله تعالى في كونه؛ ومن شمائل نشأتها أنها لم تكن دعوة للإصلاح من أجل الحكم؛ بل للحكم من أجل الإصلاح، والإصلاح ليس دنيوياً عُطلاً من الدين، ولا دينياً عُطلاً من الدنيا، وإنما إصلاح على نهج نبوي لا تفترق فيه الدنيا عن الدين، فما كان من إصلاح أمر الدين فهو مما تصلح به الدنيا وما كان من أمر الدنيا فإنه مما يصلح به الدين، لأن الوسيلة عندهم في فهم الدين وفي تطبيقه، والوسيلة في تصور الدنيا وحاجاتها والعمل لها كانت محكومة بالاتباع المحض لأنجح فترات الحكم في العالم بأسره، وهي فترة عصر الرسالة والعصر الراشدي. وحين نتحدث عنها فإننا نتحدث عن ثلاثة قرون ارتبطت فيها الجماعة والدعوة والأمن والرخاء والاستقرار بالأسرة السعودية الحاكمة، كما ارتبط انفراط كل ذلك بانفراطها والتاريخ يعيد نفسه والمسببات مرتهنة بأسبابها فلا يمكن للحديث عن الدولة السعودية وفلسفتها وأسرار نشأتها وعوامل نهضتها، إلا أن يكون آل سعود منها بمنزلة الرأس من الجسد، وقد يصح في كثير من الدول المعاصرة أن تتكلم عن الوطن بمعزل عن الحديث عن حكامه، إلا أن ذلك لا يصلح ههنا. فكما قدمنا في بداية الورقة القولَ بأن الأسر الحاكمة قد تتحول إلى فكرة تكون هي عصبية الدولة، فإن الأمر في مثالنا هذا أصدق ما يكون، فمن يتحدث عن فصل الوطن عن آل سعود إنما يتحدث عن فصل الوطن بعضه عن بعض. وشرح ذلك أننا قلنا إن الدولة السعودية قامت على العصبية لأمرين: التوحيد والوحدة، فأما التوحيد فتمثله الدعوة إلى الدين الخالص، وأما الوحدة فتمثلها الأسرة السعودية. وسوف انطلق بسرد تاريخي يتجلى من خلاله أن محل هذه الأسرة من الشعب السعودي هو محل العاصمة من الأوطان فإذا شمخت العاصمة شمخ الوطن وإذا سقطت سقط وهكذا هم آل سعود بالنسبة لهذا الوطن، وهم كعمود الخيمة من هذا الشعب فهو متماسك متحد ما داموا متماسكين متحدين. وهذا الأمر كما يلقي بالمسؤولية على أبناء هذه الأسرة ليجعلوا من أنفسهم قدوات في الالتحام واتحاد الكلمة والالتزام الشرعي والأخلاقي فإنه يلقي بالمسؤولية أيضاً على سائر المواطنين كي يكونوا محصنين ضد أي شعارات يراد استخدامها كوقود لإحراق بلادنا. سرد تاريخي يجلي الصورة كما تم وصفها آل سعود هم الأسرة الوحيدة التي جمع الله بها كلمة أبناء معظم أصقاع جزيرة العرب، وسبب ذلك توليها مشروع الدعوة والدولة، والإحياء الديني والتصحيح العقدي، وهو سر نجاحها في أدوارها الثلاثة، وحين نبحث في رجالات هذه الأسرة الذين تزعموا مشاريع وَحدوية ولم يُكتب لهم النجاح، نُدرِك أن سبب فشلهم، أو لنقل؛ جانباً مهماً من أسباب فشلهم، هو تَرْكُ هذا المشروع، ولنقل: إن أوضح مثال لهؤلاء: الأمير خالد بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الذي أرسله محمد علي ليحكم نجداً بقوة تركية فلم تغن عنه وعجز عن السيطرة عليها، وهرب منها أواخر سنة 1257 ولا أعلم مصادر الأمير سيف الإسلام بن سعود في حكايته في رواية «طنين» لأفكار وآراء خالد بن سعود، فإن كانت نسبتها إليه صحيحة وليست تصورات خاصة بمؤلف القصة فلا شك عندي أنها كانت عاملاً رئيساً في فشله لا سيما أمام خصم ضعيف كابن ثنيان، الأمر الذي يؤكد أن الانتساب إلى هذه الأسرة كان عاملاً رئيساً في اجتماع الكلمة في هذه البلاد مقرونا بالعصبية الفكرية التي كانت أساس سيادتها وهي الدعوة إلى التوحيد والوحدة، وكون هذه الأسرة قد أضحت رمزاً لها. واختيار محمد علي لرجل من هذه الأسرة ليكون صنيعةً له في بلاد نجد دليلاً على إدراك الرجل، أعني الباشا لهذا الملحظ المهم في تفسير الأحداث، وهو ضرورة تبني هذه الأسرة لأي قوة تُريد أن تحكم نجداً؛ لكن إشكالية خالد كانت في فقدانه للعنصر الآخر من عناصر عصبية الدولة السعودية وهو التوحيد، فالأتراك الذين يصاحب جيشُهم الأمير خالداً هم أعداء التوحيد، ولذلك لم تنطلِ حيلة الباشا على أهل نجد، وكان ردهم أنهم لا يطيبون بحكم الأتراك. (عنوان المجد، 2 /155 حوادث 1253ه). وهناك معلومة تعد عند الكهول من المعلوم بالضرورة الذي لا داع للوقوف عنده، إلا أننا نجدها اليوم مما يفتقر إليه كثير من شبابنا، كما يفتقر إليها أكثر العرب والمسلمين، وأعني بها: أن بلادنا السعودية كانت قبل تأسيس هذه الدولة المباركة تكاد تكون أكثر بلاد الأرض جوعاً وفقراً وخوفاً وطرداً للسكان وبإمكان القارئ الاطلاع على العديد من كتب التاريخ وكتب الرحلات التي تحدثت عن تلك الفترة، فسيجد مثالاً واضحاً لذلك في مناطق نجد وهي منشأ ومحضن الدولة السعودية الأول: العارض والقصيم والعالية وسدير والمحمل والحوطة والأفلاج وغيرها كانت تشمل مئات القرى كل منها يعد كياناً سياسياً مستقلاً أو شبه مستقل، هذا عدا البوادي؛ فلو لم يجمعها الله تعالى تحت راية هذه الأسرة المباركة في الأطوار الثلاثة، وآخرها طور المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله؛ فماذا سيكون واقعها اليوم؟ بل كان بعض القرى يحكمها أميران وثلاثة وأربعة يقتتلون على أقل من كيلو متر مربع، ولم تكن البوادي أحسن حالاً؛ بل كانوا كما قال الأول: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا أرض شاسعة تسودها الفرقة والخوف والجوع والنزاع وحتى المناطق والدويلات التي كانت قبل حكم الملك عبدالعزيز تخضع للعثمانيين وفق نظم مختلفة وهي الأحساء والحجاز وتهامة وعسير، لم تكن تنعم بالأمن أو العناية التعليمية والبنيوية والاجتماعية، بل لا يمنح شعبها التابعية العثمانية. ولم تكن العواصم الإسلامية تلتفت إلى نجد قبل الدولة السعودية فضلاً عن أن تعتني بها أو تسعى لإصلاح حالها؛ بل على العكس فكلما نشأت فيها دولة تسعى للم شعثها بعثوا إليها الجيوش لإسقاطها وإعادة نجد لسابق حالها من الفوضى والخوف والجوع. فالدولة العباسية لم تعرف نجداً إلا حين تمردت بنو نمير وبعض قبائل العرب فأرسل لهم الخليفةُ الواثق القائدَ التركي بغا الكبير سنة 231 وقتل منهم ألفي رجل، وساق الكثيرين معه أسرى يجلدهم أثناء السير بالسياط وكان ذلك بداية اندثار تلك القبيلة العربية التي لم يعد لها وجود اليوم. وظل هذا شأن الدول المتعاقبة على عواصم الإسلام، البويهيين والسلاجقة، والأيوبيين والمماليك، لا يعرفون لهذا الصقع من الأرض مكاناً ولا يقيمون لأهله وزناً، فلا نشر للعلم ولا للأمن ولا عوناً على الرزق، ويمكنك النظر فيما قاله ناصر خسرو عن حالها في القرن الخامس وقس عليه ما قبله وما بعده، قال: «وليس لهذه الناحية حاكم أو سلطان فإن على كل جهة رئيساً أو سيداً مستقلاً ويعيش الناس على السرقة والقتل وهم في حرب دائم بعضهم مع بعض ومن الطائف إلى هناك خمسة وعشرون فرسخاً. وبعد ذلك مررنا بقلعة تسمى جزع وعلى مساحة نصف فرسخ منها أربع قلاع نزلنا عند أكبرها وتسمى حصن بني نسير وهناك قليل من النخيل وبيت العربي الذي استأجرنا حمله في الجزع هذه ولبثنا هناك خمسة عشر يوماً إذ لم يكن معنا خفير يهدينا الطريق ولكل قوم من عرب هذا المكان أرض محددة ترعى بها ماشيتهم ولا يستطيع أجنبي إن يدخلها فهم يمسكون كل من يدخل بغير خفير ويجردونه مما معه فيلزم استصحاب خفير من كل جماعة حتى يتيسر المرور من أرضهم فهو وقاية للمسافر ويسمونه أيضاً مرشد الطريق قلاوز وقد اتفق إن جاء إلى الجزع رئيس الأعراب الذين كانوا في طريقنا وهم بنو سواد واسمه أبو غانم عبس بن البعير فاتخذناه خفيراً وذهبنا معه وقابلنا قومه فظنوا أنهم لقوا صيداً إذ إن كل أجنبي يرونه يسمى صيداً فلما رأوا رئيسهم معنا أسقط في أيديهم ولولا ذلك لأهلكونا وفي الجملة لبثنا معهم زمنا إذ لم يكن معنا خفير يصحبنا ثم أخذنا من هناك خفيرين أجر كل منهما عشرة دنانير ليسيرا بنا بين قوم آخرين وقد كان من هؤلاء العرب شيوخ في السبعين من عمرهم قالوا لي إنهم لم يذوقوا شيئاً غير لبن الإبل طوال حياتهم إذ ليس في هذه الصحراء غير علف فاسد تأكله الجمال وكانوا يظنون إن العالم هكذا وظللت أتحول من قوم إلى قوم وأجد في كل مكان خطراً وخوفاً إلا أن الله تبارك وتعالى سلمنا منها (سفر نامة 154). وقد تخيرت نص ناصر خسرو لأن رحلته إلى نجد تمت بين سنتي 437 و444ه، وكان ذلك زمن الدولة الأُخيضرية، فإذا كان هذا حال نجد في ظل دولة بني الأخيضر فكيف بحالها في زمن ليس فيها دولة؟ ومما يعلمه أهل العناية بالتاريخ أنه لم تقع نجد تحت دولة أبدًا بعد بني الأخيضر، وحتى هؤلاء لم يتعد حكمهم فرض الأتاوات على الناس بادية وحاضرة (انظر كتاب الإمارة الأخيضرية لأيمن النفجان). وجاءت الدولة العثمانية ولم تكن تعرف نجداً إلا إذا أحست بوادر دولة واتحاد داخلها، هناك تُسَلِّط ولاتَها في العراق والحجاز ومصر، وترسل الجيوش لغزوها، أما في أزمنة الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات فكأن نجداً خارج التاريخ وخارج الجغرافيا. فمن أشهر الغزوات التي شنها عُمّال العثمانيين تلك التي قام بها في القرن العاشر الهجري حسن بن أبي نمي 986ه وتوغلت داخل نجد في جيش قوامه خمسون ألفاً، موجهاً من قِبَل ولاة العثمانيين من بني قتادة. لا لتوحيدها ونشر الاستقرار والتحضر فيها، بل لإسقاط دولة آلِ شبيب في معكال -تقع داخل مدينة الرياض حالياً- وتعقُبِ رئيسِها محمد بن عثمان. وقد حاصر ابن أبي نمي معكالاً وقتل من أهلها وغنم وأسر، ثم عاد إلى مكة، وكرر الغزو مرة أخرى بعد عامين ووصل إلى الخرج والسلمية، وقتل وغنم وأسر ثم عاد. استمع إلى مؤرخ الحجاز عبدالملك العصامي يصف هذه الغزوة: «ثم غزا معكال، وذلك أنه بعد مدة قريبة برز مولانا الشريف حسن إلى غزو معكال بأقصى البلاد الشرقية، لأمور فعلوها فيها طعن على الدولة الإسلامية، وحسبك السنة النبوية المبرورة: «الفتنة من ههنا» وأشار إلى الجهة المذكورة، فقام مولانا المشار إليه في ذلك حماية لبيئة الإسلام خصوصاً حجاج بيت الله الحرام، وزُوّر جَدِّه محمد عليه الصلاة والسلام، فوصل دارهم، وقاتلهم فيها احتقاراً، وعساكر الإسلام الله تعالى يحميها، ويبلغها بسعده أقصى أمانيها، في جمع كذلك يزيدون على الخمسين ألفاً، وطال مقامه فيهم حتى استأصل أهل الدار، رجالاً وأموالاً وكل من كان إليه إلفاً «سمط النجوم، 4: 377». وحسبك بهذا النص لتدرك كيف كان النخبة من العلماء من أمثال العصامي ينظرون إلى نجد، فليست عندهم محلاً إلا لأن يُقتل أهلها بحجة واهية، وهي أن الفتنة تأتي من المشرق، كما في الحديث النبوي؛ أما تلميحه بأن هذا الجبروت من الشريف الحسن كان من أجل تأمين الحاج فقد كذب العصامي وما صدق، لأن معكالاً ليست على طريق الحاج؛ لكن آل شبيب كونوا إمارة في شرقي نجد وشرقي الجزيرة وجنوب العراق، كان من المعقول أن توحد تلك الأقطار وتنهض بها، وهذا ما لا يوافق المصالح العثمانية. (يراجع كتاب إمارة آل شبيب لعبد اللطيف الناصر). وفي عام 1011ه غزا الأمير أبو طالب بن الحسن أطراف نجد ثم عاد، وفي 1015ه غزا الأمير محسن بن حسين نجداً حتى وصل القصب، وهي قريبة من شقراء حالياً، قتل الأمير محسن معظم أهلها ولم يبق إلا القليل ونهبها ثم عاد. يقول الشيخ عبدالله البسام (ت1346ه) في تحفة المشتاق ص 129: «في هذه السنة ظهر الشريف محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي إلى نجد وقتل أهل بلد القصب من بلاد الوشم ونهبهم، وفعل الأفاعيل العظيمة، ودمر بلد الرقابية من بلد القصب وقتل أهلها». وفي سنة 1057 غزا زيد بن محسن نجداً ونزل روضة سدير، وقال المؤرخ إبراهيم بن عيسى (ت1343) «وفعل بأهل الروضة من القبح والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد» تاريخ ابن عيسى من خزانة التواريخ، 2: 41 . وفي 1107 غزا سعد بن زيد نجداً حتى نزل أشيقر في رمضان، وأفتى عالم أشيقر أحمد القصير أهلها بالفطر في نهار رمضان ليحصدوا زروعهم قبل أن يتلقفها الغزاة، وقام أمير مكة بحبسه ومعه الشيخ حسن بن عبدالله أبا حسين، وأعطاه أهل أوشيقر ما طلب من الدنيا فارتحل عنهم؛ تحفة المشتاق، 190. ** **