الانطباع السائد هو أن الخلل الذي أصيبت به المسيرة العربية سببه تقصير المثقفين، فالمثقفون لم يفعلوا كذا، ولم يطرحوا كذا من الأفكار، لذلك أُجهضت حركة النهوض العربي وحدثت الكارثة! ما أبعد ذلك عن الحقيقة!... إنه بهتان وكلام غير صحيح. واللافت أن من يطرحون ذلك جالسون على مقاعدهم المريحة في سهراتهم الليلية وهم غير متنبهين إلى المثل العربي القائل (رمتني بدائها وانسلَّتْ)! المسألة ليست مسألة تقصير المثقفين... ماذا عن بقية فئات المجتمع، من رجال الأعمال وأصحاب المهن؟ وماذا عن رجال الدين ورجال السياسة؟ ثم ماذا عن الفئات الأخرى في المجتمع؟ إنه تقصير جَمْعي، والجماعة كلها مسؤولة عنه، لا فئة محدودة واحدة منها، هي فئة المثقفين! ثم أن الأفكار – وحدها – لا تحرك الأمم ولا تصنع التاريخ. لا بد من قوى مجتمعية فاعلة تتبناها وتناضل من أجل تحقيقها وتحويلها إلى واقع ملموس. أقول «مجتمعية» Societal، لأن المصطلح أشمل وأعمّ من «اجتماعي» Social، الذي لا يعني سوى الجانب الاجتماعي وحده، بينما «مجتمعي» يعني كافة قطاعات المجتمع، من اقتصادية وعسكرية وثقافية وسياسية... إلخ. وفي عمق تراثنا الفكري، نرى ضرورة الترابط بين «الفكرة» و «القوة» المجتمعية. يقول ابن خلدون في «مقدمته»، التي مازالت – بالمناسبة – «منفية» من الوعي العربي العام: «إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم»، ويضيف: «إن كل أمر نحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية». ولا بد من التوقف هنا، لإيضاح إن استخدام ابن خلدون لمصطلح «العصبية» له مدلول خاص، فهو لا يعني «التعصب»، كما هو شائع في اللغة، بل العصبيةُ في مفهوم صاحب «المقدمة» تعني «الرابطة الاجتماعية العامة»، سواء كانت بين قبيلة أو قوم أو مواطنين في وطن من الأوطان، وقد لجأ ابن خلدون في زمانه إلى مصطلح «العصبية» لغياب المصطلحات الأخرى، الأكثر دقة في الدلالة على المعاني المقصودة والحقائق الاجتماعية القائمة، والتي ستأتي تباعاً مع تطور الفكر والمجتمع الحديث. إن «الدعوة الدينية» في حد ذاتها مجرد أفكار وقيم سامية تدخل في باب المفاهيم الثقافية، ولكي تنتشر وتعمّ، لا بد لها من سند مجتمعي بالمعنى الذي يلمح إليه ابن خلدون، مستشهداً بالحديث النبوي الشريف: «ما بعث الله نبياً إلا في مَنَعَةٍ من قومه». وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أَوْلَى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم: «أن لا تخرق له العادة في الغالب بغير عصبية»، كما يقول ابن خلدون نصاً؟ ويلامس ابن خلدون معنى حاجة صاحب «الفكرة» إلى قوى مجتمعية تسنده، عندما يقول: «ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء (والفقهاء هم مثقفو ذلك الزمان)، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وطرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك... وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية، التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر، كما قدمنا، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في دعوتهم إلى الله، بالعشائر والعصائب، وهم المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه أجرى الأمور على مستقر العادة، والله حكيم عليم». وقد ظل هذا الملحظ المفصلي منطبقاً على مختلف الحركات الدينية – السياسية في التاريخ العربي، من الموحِّدين إلى المرابطين، وكذلك من سبقهم ومن جاء بعدهم، وصولاً إلى الدعوة السعودية التوحيدية قبل أكثر من بضعة قرون في الجزيرة العربية، حيث تم التحالف بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب صاحب الدعوة التوحيدية الدينية والإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى. وإذا ألقينا «نظرة أفق» على التجارب العالمية، نجد القانون ذاته في ضرورة «التحالف» بين أصحاب الأفكار وأصحاب القوة، ففي تاريخ الثورة الفرنسية نجد إنه لولا قوى البورجوازية الفرنسية التي تبنت أفكار «التنويريين» و «الموسوعيين» من مثقفي فرنسا، وناضلت من أجلها، لما كان لهم هذا الشأن اللافت في وعي أوروبا والعالم. وبالمثل، كان من الممكن أن تبقى أفكار كارل ماركس ورفيقه انغلز، مجردَ أفكار نظرية لو لم يتبنَّها لينين وتنظيمه البلشفي الذي استطاع الوصول إلى السلطة في روسيا والبقاء فيها لسبعين عاماً تحت مسمّى «الماركسية – اللينينية»، وهو ما ينطبق أيضاً على تجربة ماو تسي تونغ في الصين، من خلال «المسيرة الطويلة». وقد بقيت «جمهورية أفلاطون» مجرد «يوتوبيا» فكرية، وأفكاراً جميلة في ضرورة تولي الفلاسفة الحكم، ولم تجد لها من يتبناها من العناصر الفاعلة في الواقع المجتمعي الإنساني. وهذا لا يعني أن أفكار المثقفين لا قيمة لها في ذاتها، فكم من الأفكار ظلت في ضمير الأمم إلى أن حملتها حركات اجتماعية مقتدرة، كفكرة «الديموقراطية»، التي طرحها الفكر الإغريقي اليوناني قبل ألفي سنة، وتبنتها الحركات الأوروبية والغربية الحديثة، بعد تكييفها من واقع كل مجتمع، ولكن احتاج الأمر إلى قوى مجتمعية تتبنى تلك الأفكار «النظرية». وثمة مئات من «الملفات» في مكاتب أصحاب القوة المجتمعية، من القادرين على تحويل «النظري» إلى «تطبيقي»... ولكن الإرادة لم تتوافر، أو ربما الاقتناع لم يتحقق... فمن يعلّق الجرس... ومتى؟! * كاتب من البحرين