تلك هي النظم السائدة في المجتمعات على اختلاف حضاراتها وثقافاتها.. يتحمل العقلاء تبعات وتكاليف جهالة الجهال.. وإلا فما معنى أن ترتفع تكاليف التأمين على المركبات بهذه الصورة اللافتة؟ فلولا تهوُّر بعض الشباب من قائدي المركبات، وكثرة الحوادث التي يرتكبونها، لما دفع العقلاء هذه المبالغ الطائلة للتأمين على مركباتهم. يقول الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه -: «يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور». معظم الأنظمة والقوانين المدنية في العالم يتم سنها وصياغتها ابتداء بسبب سلوك اجتماعي مخالف للفطرة من جاهل أو متجاهل.. ومن ثم يتم فرضها على المجتمع بكل أطيافه وفئاته، بمن فيهم العقلاء. وحينئذ يدفع العاقل تكلفة جهالة الجاهل أو المتجاهل. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى للتركيز على تربية النشء، وهذا هو بيت القصيد من هذا المقال: التربية المبكرة التي تؤصل للسلوك الاجتماعي السليم لن تؤدي إلى سلوك اجتماعي ناضج وسليم فقط بل ستخفف الأعباء الإدارية والمالية والاقتصادية على الحكومة وعلى الاقتصاد الوطني كله. مجتمع يرتفع فيه مستوى السلوك الاجتماعي السليم، وتقل فيه الانحرافات السلوكية، ستقل فيه الحاجة إلى إنشاء وإدارة عدد كبير من السجون، ستقل فيه الحاجة إلى تكثيف أجهزة الأمن والحراسة والدوريات؛ وبالتالي انخفاض تكاليفها، ستتحدد فيه الحاجة إلى متابعة وضبط الغش والتدليس والسرقة في المبيعات والمشتريات، ستنخفض تكاليف تشغيل المحاكم ودور القضاء، ستنخفض فاتورة المصحات النفسية ومعالجة الإدمان، ستنخفض تكاليف نظافة المدن والمتنزهات العامة وتكاليف التقاط النفايات التي يرميها أولئك المتخلفون من نوافذ مركباتهم، ستنخفض تكلفة حماية البيئة من آثار جرائم بعض الرعاة والمتنزهين.. وعلى ذلك فقس. وباختصار، ستنخفض تكاليف العيش على العقلاء الذين يدفعون ثمن أخطاء وعبث الجهلاء. لعل من نافلة القول الإشارة إلى أن من أعظم الاستثمارات الوطنية هو الاستثمار في تربية النشء؛ ذاك لأن عوائده تتعدى الإيجابيات الاجتماعية إلى عوائد اقتصادية وإدارية، من شأنها أن تخفف فاتورة تشغيل الأجهزة العامة بشكل كبير جدًّا، وتعزز نمو الاقتصاد الوطني، وتحفظ مدخراته. لذا فإنني أقترح تبني مبادرة وطنية لتعزيز السلوك الاجتماعي، وضبط سلوك النشء، تشترك فيها الجهات التعليمية والإعلامية والاجتماعية والأسر.. لعلنا نستطيع - على الأقل - أن نخفف من حدة الآثار السلبية المترتبة على ما تطرحه وتبثه بعض وسائل الإعلام، فهل إلى ذلك من سبيل؟؟؟