وأمَّا العقَّاد فقد قدَّم دراسةً مهمَّة في كتابه المُعَنون ب(إبليس)، وقد أبلى فيها بلاءً حسناً من خلال ثلاثة مباحث: الأوَّل: (الشيطان والفنون) والثاني: (الشيطان في الأدب الغربي) والثالث (الشيطان في الأدب العربي). في المبحث الأوَّل -وهو أهمها- يبدأُ العقادُ الحديثَ عن أصل كلمة (عبقر) ومعناها، ثم يسرد أسماء بعض شياطين الشعراء وهم (هبيد) لعبيد بن الأبرص، و(جهنام) لعمرو بن قطن، و(سنقناق) لبشار بن برد. يُضيفُ العقاد بَعْد هذا كلامًا مهمَّاً للفرزدق وهو قوله: «إنَّ الشعر منقسمٌ بين شيطانين: الأوَّل (الهوجل) وهو موكَّلٌ بالجيّد من الشعر. والثاني: (الهوبر) وهو موكَّلٌ برديئه وسقطه». وشياطين الشعراء إمَّا أنثى وإمَّا ذكر، ويوردُ العقادُ مقولةً تقول: إنَّ تواردَ الخواطر دليلٌ على أنَّ الشيطان واحدٌ. وهي عبارة قالها جرير للفرزدق، إلا أنَّ العقاد يرفضُ هذا، بل يرفض أنْ يكون للشاعر شيطان بالمعنى الظَّاهر، ويؤكدُ أكثر من مرة أنَّ شيطانَ الشِّعر عبارةٌ عن قوة خفيَّة تتسبَّبُ بإيراد معنًى خفيّ قد يكون سببه الجن أو أيَّ قوة خفية أخرى. ينطلقُ العقَّاد بعد حديثه عن شياطين الشعراء إلى الحديث عن موضوع آخر وهو ما يسمى في التراث العربي ب(عزيف الجن) أو الغناء الماخوري، بمعنى أن هناك شياطين يوحون بالألحان إلى المغنين حين تنغلق عليهم بعض القصائد. ويختلف شيطانُ العزف عن شيطان الشِّعر في التراث العربي، فشيطانُ الشِّعر ملازمٌ للشاعر كما يزعمون؛ بينما شيطان العزف يأتي كالمُسعف، ويرحل فور انتهاء المهمَّة. والشياطينُ عند العقاد لا تختص بالشعراء والمغنين وحسب، بل تأتي إلى بعض الأطباء في حالات نادرة جدًا. ويتحدث العقاد بعد ذلك عن جنيات اليونان، ثم يقسم الشياطين إلى نوعين: الأول: شياطينُ فنون وإبداع. والثاني: شياطينُ غواية وإفساد. ثم يضيف: وإذا كان الفنُّ من آلات الإصلاح والفطنة فشيطانه من شياطين الجمال. وإذا كان الفنّ من آلات الفتنة فشيطانه من جند إبليس. وفي المبحث الثاني يؤكد العقاد نفيه أن يكون للشاعر شيطانٌ ويقول إنَّ الشعراء هم الذين خلقوا هذا الشيطان في عقولهم. بعد ذلك يدلف العقاد للحديث عن صورة الشيطان في ذهن الأدباء الغرب، ويفصِّل الحديث عن (مارلو) و(ملتون) و(جيتي) و(بليك) و(كردوتشي). ثم يختم العقاد هذا المبحث بقوله إن الشياطين التي تمثُلُ للشعراء والمبدعين هي قوة خفية ويقول: إنَّ صورتها حاضرة في جميع الشعوب والأمم وأنَّ هذه التسمية تسمية رمزية، فسواء سميتها شيطانًا أو قوةً خفيةً فلا مشاحة في الاصطلاح. وفي المبحث الثالث يفتتح العقاد حديثه بالتهكم بالملاحم الغربية، إذ إنهم يجعلون للشيطان دوراً في الخليقة، ولو أنَّ العرب كتبوا ملحمةً في الشيطان لما زادوا على الوسوسة والكيد والتضليل وأنَّ هذا هو دور الشيطان الذي يجب ألا يتجاوزه. وفي هذا المبحث أيضًا حديث عن بعض الأعمال العربية التي جاء فيها ذكر الشيطان بنوع من الإسهاب ويذكر أوَّلاً (رسالة الغفران) للمعري، ثم يشير إلى ألف ليلة وليلة، ثم يورد العقاد قصيدتين له كتبهما بعد الحرب العالمية الأولى، إحداهما بعنوان (ترجمة شيطان) وهي منشورة في الجزء الثالث من ديوانه، والأخرى (سباق الشياطين). ثم يذكر العقَّادُ كتابَ عبدالرحمن شكري الذي يحمل عنوان (حديث إبليس) ثم يعرِّج على (ديوان عبقر) لشفيق معلوف. ثم إلى قصة (الموهوب) أو (الشهيد) لتوفيق الحكيم. وتُعدُّ قراءةُ العقاد هذه قراءةً عقلانية مؤمنةً وغير مصادمة للنص الديني، فهو يعترف بالجن والشياطين، ويرى أنَّ لهم قدرةً خفية في التأثير، لكنه لا يسلِّم بأن لكلِّ شاعر شيطاناً، والشيطانُ عند العقَّاد هي القوة الخفية. وأما جابر عصفور فقد قدَّم في كتابه (غواية التراث) دراسةً قصيرةً حول (الشعر والجن) بَدَأها أوَّلاً بالمكان فذكر أمكنةَ الجن وهي (جبل الجن) و(وادي عبقر) و(وبار)، ثم يعرِّج على التقاء الإنس بالجن، مستشهدًا بلقاء شمير بن الحارث الضبي، ثم يُورد أسطورة زواج الجنِّ بالإنس وعشقهم لهم، ثم ينسلُّ إلى الحديث عن شعراء الجن وأنهم ينتسبون إلى قبائل كما ورد ذلك في شعر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- مع شيطان له مِن بني الشيصبان، وكان لقاؤه به في الجاهلية. وهذه القراءة التحليلية لجابر عصفور قراءة لا طعم فيها ولا رائحة ولا لون، إذْ لم يكن المؤلف -فيما يبدو- جادَّاً في تناوله لهذه الاعتقادات السائدة، إضافةً إلى ذلك فإن المعلومات التي بين يديه كانت شحيحة جداً، بل إنَّه لم يقف على كتاب (إبليس) للعقاد مع أنَّ كتاب العقاد هذا فريدٌ في بابه، مترعٌ بالفوائد والأخبار والعلم والحكمة. ** **