في زمننا هذا لم يعد بيد المتخصص في حقل علمي إلا أن يكون جماهيريًا، ومن غير المتيسر اليوم أن يسلم المرء من الاحتكاك الثقافي العام، حتى الساسة والقادة الاقتصاديين والمفكرين وجدوا أنفسهم في تويتر وفيس بوك، وفي المجهر الإعلامي العريض بعامة، وهنا تقع مشكلة المصطلحات حين تخرج من خصوصيتها إلى عمومية الاستقبال ومعه عمومية الفهم فتقع تحت مغبة الفهم غير المنضبط بقواعد تحكمه حسب الضابط الأكاديمي المسيطر عليه في حسن أو سوء الفهم أو في الخلاف حوله. أما وقد صار العلم والعالِم معًا في مضمار لا سلطة لهما فيه على حركة تشكيل المعاني والتصورات، فهذا هو ما يحدث الوشم، وهو أن تتحول المفردة من معناها المحايد إلى معنى مكتسب من سوء الاستخدام، وفي علم الثقافة التداولية سنرى مصطلحات مثل الحداثة والليبرالية والعلمانية والنسوية مما توشم وتلبس بلبوس الفهم وسوء الفهم في تجاور متلازم يوجه مصير المصطلح في الاستهلاك الثقافي العام، وهنا تحضر مقولة الجاحظ (سياسة البلاغة أهم من البلاغة) ومر بنا زمن وقعت الحداثة فيه بهذا المأزق المعقد، وقاومنا سوء الفهم مقاومة استهلكت الجهد العام والخاص مما صرف الجميع عن جوهر القضية إلى هوامشها وتكشف لنا أن الأحداث جرتنا إلى الهامش حتى صار طرف كبير من نشاطنا في الهامش، ولكن جاء الخلاص مع مصطلح ما بعد الحداثة. ونعود لسياسة البلاغة وهي التفريق بين الجوهر والهامش، وسيتضح الفرق هنا بين الحداثة وما بعد الحداثة، حيث الأخيرة متحررة من الوشم بينما الأولى متلبسة بالوشم، وسيجد الباث نفسه أكثر حرية وصفاء في الإرسال والاستقبال حين يستخدم (ما بعد)، وهذا سيشكل ممرات آمنة للفكر نفسه ليصل إلى أوسع قاعدة دون أن يصطدم بسوء السمعة التي ستشوه الاستقبال وتبطل مفعوله العلمي والثقافي وتعزل الاستقبال بين متخصصين وجماهير، الذي هو فصل تتعطل معه مسارات المعرفة والوعي ويتحول الباحث إلى منافح نضالي عن مفردة محددة وليس عن فكر معرفي ومقولات فكرية، وأخيرًا فإن سياسة البلاغة أهم من البلاغة، كما قال عمنا أبو عثمان.