في مخيالنا الأدبي يقترن الشر وصفًا وفعلًا بالشاعر العربي الصعلوك ثابت بن جابر الذي عُرف بلقبه المشهور تأبط شرًّا. أما شخصيتنا اليوم فهي متأبطةٌ بشيء مختلف؛ فصاحبها كعادته في حله وترحاله مهموم بالآخرين ومنجزاتهم، موتور بنجاحاتهم، يقضّ مضجعه تميُّز لأحد أقرانه، ويبكيه فرادة شخص أداره بعلمه وفنه وإصراره، إنه المدعو تأبط شماتة، تلك الشخصية الهلامية الكرتونية التي لا تستطيع أن تحدد لها مبدأ، ولا أن تقعّد لها قاعدة. هو إضافة هامشية لواقع مشرق، فرضته المناسبة، وصادرته كل شواهد النجاح ومؤشراته. تأبط شرًّا الشخصية المعروفة هو ثابت في اسمه ومواقفه، جابر في نسبه وإضافاته لكل مشهد دخله واستوطنه، هو فارس في الكلمة كونه كان شاعرًا فحلاً، وهو صعلوك كونه كان مستقلاً في رأيه وطريقة تفكيره وأسلوبه في الحياة، تشرده وصعلكته لا يعنيان أنه كان بلا قيم أو مبادئ، بل على العكس كانت له ثوابت رسختها مسالكه، وحكم حفظتها أشعاره، وأخلاق معتدلة كانت مرجعيته في التعاطي مع الحياة وضروبها ودروبها المتشعبة. في عالم الوظيفة، وهو عالم تنافسي بطبعه، تكاملي في صورته المثلى - التي ما زال الكثير يبحث عنها -، تكمن وتكون شخصيات تتأبط حقدًا وغلاً، شماتة وسخرية واستهزاءً، هي شخصيات تتسم بالعجز كمكون أساس يؤطر حضورها، وشيء من مشاعر النقص وعناصره ومركباته، تحضر من خلال الفوضى، وتجد لها مسالك تتسرب منها وتنسرب إليها؛ لتستقر كواقع مؤلم في حياتنا الوظيفية. هؤلاء بعيدون عن المنجز وصوره ومقدماته، هؤلاء مجرد أعداد أقرب إلى الصفر في قيمته، وقد تكون أدنى من ذلك، لا تؤثر في أي عملية إنتاجية سوى أن لها الحق في استيطان خط الأعداد الذي هو الجامع الصحيح لها مهما تقدمت أو تأخرت، ومع ذلك فهذه الأعداد تتفاوت في قيمتها، وإن جمعها ذلك الخط العتيد والعتيق. المتأبطون شماتة ليس لهم حيلة سوى الوصف والتحليل والترقب والاستبشار؛ فهم وصفيون بذائقة تنحدر بالجمال إلى مستنقعات آسنة، وتعترض على الكمال الإنساني في أزهى صوره فتراه نقصًا. وتلك حيلة العاجز، وشاهد عجزه. أما تحليلهم فهو إلى الأمنيات أقرب وأكمل، تلك الأمنيات التي يؤزها الشيطان أزًّا، ويطبل لها أقرانه ممن تلبس الآدمية شكلاً، لكنه من الداخل مختلف؛ فهو شيطان رجيم، يسترق كل معلومة عابرة فيعتقها بمفاهيمه المسمومة، ويعيد نشرها وتدويرها في صور من الشائعات المغلوطة والأكاذيب الفاقعة. المتأبطون شماتة هم مستبشرون عادة بكل أذية تلوح في الأفق تستهدف الناجحين، يستبشرون بالأذى لغيرهم، ويعيشون في انتظار سقطة تودي بذلك الناجح ونجاحاته إلى دهاليز الخطأ الذي يستوجب العقاب والنسيان الذي يمحوه من خارطة الزمان والمكان. المتأبطون شماتة محركات بحثهم لا تبحث عن المعلومة الصحيحة ولا الموثوقة، هم إلى الذباب أقرب وبوصفهم به أجدر وأكمل. يألفون السقطات، ويعيشون على القاذورات؛ فهي بيئاتهم الآسنة والمنسية؛ ليستمر وجودهم مؤشر عجز عالة على الحياة وإنسانها الجاد الرصين. في بيئات الأعمال يكثر مثل هؤلاء، ويندر أن يُكشفوا علانية أمام الخاصة والعامة، لكن سيماهم تظهر وهم غائبون، ومكائدهم وهناتهم تطفح وهم لا يشعرون، نصيبهم من الحضور أنهم في ذيل القائمة، يعيشون على بقايا الموائد وبعد أن ينتهي الكبار تُفتح لهم الأبواب فيأكلون كما تأكل الدواب والأنعام. فهم المهزومون الذين تأبطهم العجز ليستبدهم ويستعبدهم، ويجعلهم متنًا لحكاياته، وشواهد بعض خيباته وانكساراته. ** ** - علي المطوع