كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر (ت327ه) يعدّ من أهمّ الكتب التي تعرضت إلى نقد الشعر في القرن الرابع الهجري، وهو أحد الكتب التي تمثل اتّجاهًا نقديًا تأثّر بالثقافة اليونانية، فقد اهتمّ قدامة بعلم المنطق، وعدّ من الفلاسفة الفضلاء(1)، وقد طُبِعَ نقد الشعر طبعات عديدة: الطبعة الأولى بعناية المستشرق الهولندي بونيباكر في عام 1956م، ثمّ طبع في مطبعة الجوائب، ثم طبع بتحقيق محمد عيسى منون، ثم طبع بتحقيق كمال مصطفى ونشرته مكتبة الخانجي(2)، وفي عام 1426ه ظهرت طبعة بعناية محمد عبد المنعم خفاجي، والذي يهمّني من هذه الطبعات هي الطبعة الأخيرة التي يُنتظَرُ منها أن تكون قد تلافت أخطاء الطبعات السابقة، واستدركت ما فاتها، ولكن للأسف قد وقع ناشر هذه الطبعة بأخطاء في التحقيق قد تكون أشدّ من أخطاء سابقيه، ولعلّ من أهم الملحوظات على هذا التحقيق ما يأتي: الملحوظة الأولى: كتب المحقّق عبارة (تحقيق وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي)، ولم يعتمد المحقّق مخطوطات في نشر عمله، ولم يصف مخطوطات كتاب نقد الشعر ويُبيّن قيمتها، ولم يرفق صورًا للمخطوطات المعتمدة؛ لذا لا يصحّ أن يوصف عمله بأنّه تحقيق؛ لأنه مخالف لمفهوم التحقيق عند محققي التراث الذي ينصّ على أنّ التحقيق «إخراج الكتاب على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي في عنوانه، واسم مؤلّفه، ونسبته إليه، وتحريره من التصحيف والتحريف، والخطأ، والنقص، والزيادة»(3). الملحوظة الثانية: لم يكتب محمد عبد المنعم خفاجي دراسة حول الكتاب، تبيّن عنوان الكتاب، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وموقعه في تاريخ النقد الأدبي عند العرب من حيث تأثره فيمن سبقه وأثره فيمن بعده من النقاد، وكان حريّاً به أن يصنع مقدمة للكتاب يُبيّن فيها كلّ القضايا المتعلقة بالكتاب كما صنع المستشرق الهولندي بونيباكر الذي درس كتاب نقد الشعر من حيث جملة من القضايا أبرزها: نقد الشعر ومضمونه، وعلاقة قدامة بمن سبقه من أصحاب النظريات الأدبية، وتأثير الفلسفة اليونانية على نقد الشعر، وتأثير نقد الشعر على مؤلفات متأخرة(4)، وقد نقل الدكتوران: وليد خالص، وسمير هيكل مقدمة بونيباكر لنقد الشعر إلى العربية في عام 2002م أي قبل صدور طبعة خفاجي بأربع سنوات، وكان جديرًا به أن يطلع عليها، ويفيد منها، ويناقش ما فيها من آراء. الملحوظة الثالثة: لم يضع محمد عبد المنعم خفاجي فهارس مفصّلة للكتاب تعين مطالعه على الاهتداء إلى ما يبحث عنه في الكتاب بيسر وسهولة، وفي أهمية الفهارس للكتاب المحقَّق يقول أحمد الخرّاط: إنّ توفُّر الفهارس يعين الباحث في دراسة الكتاب، وتقويمه، ونقده؛ لأن طائفة كثيرة من مادّة الكتاب سوف يجدها أمامه مرتّبة مبوّبة(5)، وكان حريًا بالمحقّق أن يصنع فهارس للآيات، والأحاديث النبوية والآثار، والشعر والرجز، والحكم والأمثال، والمواضع، والأعلام، والمصطلحات النقدية، وغيرها. وقد كان جديرًا به أن يستفيد من تحقيق كمال مصطفى الذي سبقه بسنوات، فقد وضع فهرسًا للمصطلحات النقدية(6)، وفهرسًا للأشعار(7)، وفهرسًا للأعلام(8). الملحوظة الرابعة: لم يتحدّث محمد عبد المنعم خفاجي عن الأثر اليوناني في كتاب نقد الشعر إلا في إشارة عابرة في سطر واحد، وقال إنّ قدامة تأثّر بكتاب الخطابة لأرسطوطاليس(9)، ولم يُبَيّن أوجه أثر كتاب الخطابة في قدامة، كما أنّه لم يضرب أمثلة على هذا التأثر! الملاحظة الخامسة: لم يناقش محمد عبد المنعم خفاجي قول قدامة بن جعفر إنّ كتابه نقد الشعر يعدّ أول سفر علميّ في النقد الأدبي عند العرب «ولم أجد أحدًا وضع في نقد الشعر، وتخليص جيّده من رديئه كتابًا...»(10)، وقد أكّد إحسان عبّاس أنّ قدامة مسبوق بكتابين صُنّفا في النقد الأدبي عند العرب هما: نقد الشعر للناشئ، وعيار الشعر لابن طباطبا(11). الملحوظة السادسة: لم يُخَرّج محمد عبد المنعم خفاجي الأشعار من مظانّها الأصليّة، فلم يوثّق من دواوين الشعراء، ولا من المجاميع الشعرية الأصيلة المعروفة، وقد بيّن كثيرًا من معاني الألفاظ الغريبة من دون عزو إلى كتب اللغة المعتمدة كمعاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني، وغيرها من كتب اللغة المتداولة، كما أنه يُصحّح بعض الأخطاء اللغوية الواردة في المتن في بعض الحواشي من دون الاعتماد على مخطوطات يُصحّح منها ومن أمثلة ذلك في الحاشية الثالثة من الصفحة الحادية والخمسين تصحيحه «الأصحّ: وعلمي بالعطف على علم سابقًا»(12)، وفي الحاشيتين: الأولى والثانية من الصفحة السادسة والخمسين صحّح بقوله: «الأصحّ اسم على بناء ينزل للمفعول، والأصحّ والمدح والهجاء»(13). وفي الختام فإن كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر يحتاج إلى نشرة علميّة محقّقة تكون معتمدة على مخطوطات، ومخدومة من حيث الدراسة حول الكتاب، والفهارس الشاملة، وغير ذلك من أصول التحقيق العلمي للتراث، والذي حفزني إلى هذا الاقتراح هو أنّ غالب التحقيقات القديمة للكتاب غير متوافرة، وأنّ التحقيقين الأخيرين: تحقيق كمال مصطفى، وتحقيق محمّد عبد المنعم خفاجي لم يعتمدا مخطوطات، فهاتان الطبعتان لم يشر ناشراهما إلى مخطوطات الكتاب؛ لذا فالحاجة ملحّة إلى تحقيق هذا السفر النفيس الذي يحتلّ مكانًا مهمًا في التراث النقدي العربي. ... ... ... الحواشي: (1) انظر عبّاس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب: نقد الشعر من القرن الثاني حتّى القرن الثامن الهجري، دار الثقافة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1404ه،1983م، ص189. (2) انظر البغدادي، قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجزيرة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1426ه/2006م، ص4. (3) عسيلان، عبد الله عبد الرحيم: تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، مطبوعات النادي الأدبي بالمدينة المنوّرة، المدينةالمنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1426ه، ص36. (4) بونيباكر، سيجر أدريانوس: مقدّمة تحقيق كتاب نقد الشعر، نقلها عن الإنجليزية وقدّم لها وعلّق عليها الدكتوران: وليد خالص وسمير هيكل، دار أسامة للنشر، عمّان، الأردن، الطبعة الأولى، 2002م، في صفحات متفرّقة. (5) الخراط، أحمد محمد: محاضرات في تحقيق النصوص، دار المنارة للنشر والتوزيع، جدّة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1409ه/1988م، ص79. (6) البغدادي، قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، 1398ه/1978م، ص229، ص230. (7) المرجع السابق، ص231-ص243. (8) المرجع السابق، ص244-ص258. (9) انظر البغدادي، قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، ص10. (10) المرجع السابق، ص51. (11) انظر عبّاس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص190. (12) البغدادي، قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، ص51، (الحاشية الثالثة). (13) المرجع السابق، ص56، (الحاشية الأولى والثانية). ** **