التاريخ السياسي يحدثنا بلغة واضحة صريحة أن العالم في جميع مناحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والعسكرية.. الخ، واجه سيلا عارما من النزاعات والصراعات والحروب العديدة، وقد استطاعت الدول خاصة عندما يتحد الجميع في خندق واحد ليكون محورا قويا للتصدي للعدو صاحب المحور الآخر لتنتصر عليه. هذا حدث مثلا في الحربين الكونيتين اللتين بلغ عدد من لقوا حتفهم في تلكما الحربين المدمرتين أكثر من (60) مليونا من البشر. على الجانب الآخر هناك حروب أبطالها أمراض صحية تعرضت لها البشرية في القرون الماضية، وهذا القرن الذي نعيش أحداثه المأساوية، فالتاريخ يقول إن عام 1720 كانت مرسيليا الفرنسية على موعد مع جائحة الطاعون العظيم الذي أهلك (100) ألف إنسان، وفي القرن الذي يليه وتحديدا عام 1820 أندونيسيا وتايلاند والفلبين ضربها وباء الكوليرا لتحصد أيضا أرواح (100) ألف من البشر. وقد جاءت الطامة الكبرى التي حازت لقب الأنفلونزا الإسبانية لتصبح أعظم بكثير من الكوارث الصحية السابقة لتحصد أكثر من (100) مليون من البشر، وكانت تلك الأوبئة تنتشر وتختفي في معظم الأحوال دون أن يستطيع الإنسان اكتشاف دواء أو لقاح لتلك الأمراض التي اليوم هي تحت الرقابة الصحية بعد أن أصبح لكل منها دواؤه وعلاجه. وكان تاريخ الأوبئة القاتلة على موعد على رأس كل مئة عام فعام 2020 استقبل جائحة عظيمة (كورونا) ليصبح رقم 20 من كل قرن خلال الأربعة القرون الماضية مبشرا بكارثة فيروسية جديدة. وحتى كتابة هذه السطور لم يعلن جهابذة الطب والعلوم المتخصصة عن اكتشاف علاج أولقاح لهذا المرض الذي جاء انتشاره سريعا كالنار في الهشيم. الإنسان الذي اخترع الدمار الشامل ليقتل أخاه الإنسان لينهي حروبا ضروسا كما حدث عندما أنهت القنابل النووية الأمريكية الحرب الكونية الثانية عندما دمرت الجزر اليابانية، ليعلن إمبراطور اليابان استسلام بلاده آنذاك. هو الإنسان الذي بعدما أغرق الأرض بأسلحة الدمار الشامل، زار القمر والمريخ وسبح في الفضاء، وحجز محطات له هناك. هو الإنسان اليوم الذي وقف عاجزا عن اكتشاف دواء أو لقاح لمرض عضال عطل جميع مناحي الحياة وبث الذعر بين سكان الأرض فتعطلت عجلة الحياة الاقتصادية والصحية والتعليمية، وحتى التبادل بين الدول ليمتد الأذى الاقتصادي إلى ميزانيات دول العالم، وأحد مقومات الاقتصاد وتنويعه الذي يعد رافدا أساسيا لاقتصاد الدول. ومع تطور أضرار الجائحة على اقتصادات العالم، تسابقت الدول بضخ مليارات بل ترليونات الدولارات في عروق اقتصاداتها سعيا لدفع عجلة تعافي تلك الاقتصادات بأسلوب يشبه إلى حد كبير (مارشال) دعم اقتصاد أوربا الذي وضعته الولاياتالمتحدة عام 1946 للخروج من آثار الحرب البلشفية الثانية. هذا يؤكد أن عاهة كورونا بفيروسها الخطير على الاقتصادات أعظم بكثير من تحديات الاقتصاد الدولي خلال الكساد العظيم 1929 وما تلاه في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم وفي عام 2018 من هذا القرن. وهاهي أمريكا وأوربا مثلا تنهج نفس الأسلوب لمواجهة هجمة الجائحة الجديدة، ومن الدول التي لم تتأخر عن الركب بلاد الحرمين الشريفين، فخصصت للقطاع الخاص لوحده من الدعم المباشر (180) مليار ريال، تمثل حزما تحفيزية للنشاط الاقتصادي، ودعما للقطاع الخاص الصحي لمواجهة الوباء. في بلاد الحرمين الشريفين القطاع الخاص الذي يسجل تاريخه أنه بدأ في شركة واحدة لنقل الحجاج والمعتمرين ليصبح اليوم واسع القاعدة، تعددت أنواع شركاته ومؤسساته ومصانعه..الخ. هذا الدعم للقطاع الخاص للتغلب على الإغلاق الجزئي للاقتصاد السعودي الأمر الذي كانت نتيجته الحتمية تعرض الشركات المساهمة وغيرها لخسائر مادية كبيرة، ناهيك أن نسبة النمو في إيرادات الشركات التجارية خلال هذا العام لن تبلغ ماكان يخطط لها المديرون التنفيذيون وزملاؤهم من العنصر البشري مما يستدعي وضع خطط وإستراتيجيات جديدة وهي شركات ومؤسسات ومصانع القطاع الخاص تواجه واحدة من أهم وأصعب المخاطر المالية والإدارية والتي تتطلب حلولا إدارية ومالية واقتصادية تحد من آثار الجائحة. ولا شك أن التأخر في وضع الخطط للتعامل مع هذا العدو الشرس سيترك أثره لامحالة على مركز الشركات في شقيه المالي والإداري، ويصبح التباطؤ في تبني خطط جديدة تحد من آثار الكارثة الصحية وصناعة الحلول الملائمة لتشمل دراسة تخفيض النفقات الكلية آخذا في الاعتبار طبيعة النشاط، وهل يمكن الاستغناء عنه أو تخفيض تكاليفه، ليصبح أمرا من الصعب تداركه. القطاع الخاص الذي أصبح يمارس دورا واسعا في اقتصاد البلاد في ظل اهتمام الدولة بدعمه بدون حدود وهذا تبرزه ميزانية الدولة، فميزانية 2020 مثلا كأخواتها السابقات سوف تضخ مزيدا من الأموال في عروق الاقتصاد، والقطاع الخاص في ظل هذا الإنفاق السخي كان سيشهد تطورا ملموسا في هذا العام الذي عكرت الجائحة أجواءه الممطرة خيرا. يؤكد هذا التوجه للدولة في رؤيتها 2020 2030، بل إن العشر السنوات الماضية التي شهدت ازدهارا في الإنفاق الرأسمالي قصد به دعم البنية التحتية وتوسع قاعدة الاقتصاد ورفع نسبة الاستثمارات إلى إجمالي الناتج المحلي ليرتفع إلى حوالي 28 في المئة بعد أن كان في حدود 18 في المئة. يمكننا القول إن القطاع الخاص صنعت منه الدولة شراكة قوية هدفها إتاحة الفرص له ليلعب دورا أكثر مرونة وحيوية تتوافق مع الرؤية المالية والاقتصادية لمستقبل الاقتصاد السعودي الذي يعتبر القطاع الخاص جزءا لايتجزأ منه. لذا فإن الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص التي تدعمها الدولة في ظل توجه الرؤية إلى الأخذ باستراتيجيات الخصخصة التي تتم بناء على اعتماد معايير اقتصادية ومالية وقانونية تدعم اقتصاد الدولة ويساهم القطاع الخاص مستفيدا من الإنفاق الرأسمالي الذي تطبقه الدولة بناء على أسس اقتصادية ومالية واستثمارية. ومع شراسة هذا الوباء الخطير الذي لازالت حدته لم تهدأ بل إنها تزداد يوما بعد آخر، وبذا فإن القطاع الخاص يجب أن يعد العدة حتى لا يصيب منظومته بعض التصدع المالي والإداري. وأحد أهم العناصر الرئيسية للحفاظ على كيان هذا القطاع الهام، بل أهمها إعادة الهيكلة للشركات بجميع أنواعها ومنها المؤسسات والمصانع..الخ، (restructuring) هذا المصطلح لإعادة الهيكلة برزت أهميته منذ أوائل الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، ومنذ ذلك التاريخ أصبح مطبقا في جميع الدول غنيها وفقيرها. وهذا يعني أهمية إعادة النظر بصورة دقيقة لدراسة أوضاع الشركة والمؤسسة من جميع نواحيها من أجل تحسين الأداء، وإصلاح كل جوانب القصور أو الخلل الموجود داخل المنظمة ودعم الجوانب الإيجابية، وبهذا المفهوم فإن في مقدمة أهداف إعادة الهيكلة تحسين أداء الجهاز الإداري والمالي، من خلال توزيع الاختصاصات بين الإدارات المختلفة ودعم العلاقات والاتصالات فيما بينها.بهذا فإن إعادة الهيكلة في حقيقة أمرها قرار إستراتيجي تتخذه الإدارة العليا بهدف اعتماد مجموعة من الإجراءات التي من شأنها إعادة تصحيح الهياكل التنظيمية الإدارية والمالية والفنية والتسويقية للشركة الأمر الذي نتيجته الحتمية تحسين الأداء واستغلال الفرص المتاحة. ويمكن ذكر بعض العناصر الهامة التي يجب أخذها بعين الاعتبار في عملية إعادة الهيكلة ومنها (وضع الأسس للإنتاجية الفعالة بطريقة سليمة للوصول للأداء الأعلى ضمن أقل الجهود باتباع خطوات مترابطة تشمل: جميع البيانات وأساليب العمل، وضع الحلول للمشكلات، تنفيذ التخطيط، المتابعة المستمرة، وبترابط هذه الخطوات تستطيع الشركة السيطرة على تحسين الإنتاجية. إضافة إلى دراسة الوضع التنظيمي للتعرف على المشكلات الإدارية والتنظيمية، تحديد الاحتياجات التنظيمية المستقبلية، إعداد الهياكل التنظيمية والإدارية، علاج مشاكل الشركات المتعثرة. تحديد أهداف ومهام الوحدات الإدارية التي يتكون منها الهيكل التنظيمي المقترح، تصميم أساليب العمل بحيث يشمل التخطيط والمتابعة، شئون الموظفين والرواتب والأجور، الشئون المالية والحسابات العامة، الشئون الإدارية، المشتريات والمخازن، الصيانة والخدمات الفنية، الإنتاج والتسويق، وضع البيانات والمعلومات، إدارة المشروعات، إدارة الشئون البيئية، تطوير إدارة المدارس، إدارة المستشفيات. دراسة أوضاع شئون الموظفين للتعرف على المشكلات التي تواجه العاملين، تقدير الاحتياطات المستقبلية من الموظفين، وضع وصف وظيفي يشمل جميع مستويات الوظائف، اختيار وترشيح الموظفين، وضع سلم رواتب للعاملين، تصميم نماذج لعمليات شئون الموظفين. وللوصول إلى إنتاجية عالية فلا بد من تنمية الأيدي العاملة وإكسابها مهارات وقدرات حسب الاحتياجات ويتطلب ذلك وضع برامج تدريبية وبرنامج للتنمية يشمل، تخطيط القوى العاملة للمدى القصير والبعيد، تصميم خطط للتنمية للأيدي العاملة وتدريبها، الإشراف على برامج التدريب، توفير الكوادر الإدارية والمالية والمهنية والفنية المدربة لملء الوظائف. إذا إعادة الهيكلة عملية شاملة هدفها رفع كفاءة الأداء وإزالة العقبات التي تحد من الإنتاجية من خلال التعديلات في الأوضاع الإدارية والمالية المعمول بها، وتعتبر بعض الخطط والإستراتيجيات والأساليب المطبقة بالحذف أو التعديل أو الإضافة لتحسين أداء الشركة. وكما نوهنا في المقال السابق فإن تعاون وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وغيرها ممن لنشاط القطاع الخاص صلة بهم، مع الغرفة التجارية ومجلس الغرف ضرورة ملحة في هذه المرحلة المعقدة التي يمر بها اقتصاد الدولة والقطاع الخاص الذي يعتبر الدولة راعية ومحفزة وداعمة له. والله ولي التوفيق... ** ** - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة [email protected]