«لم أكتب هذا الكتاب ليكون كتابًا تبجيليًّا أو تقريظيًّا له ولجهوده في خدمة الثقافة التراثية، وإن كان يستحق ذلك، وأظن أن كثيرًا ممن كتبوا عنه قد نحوا هذا المنحى، وإنما كتبته ليكون كتابًا علميًّا، يكثف جهوده في الموضوعات التي عالجها، ويبين الإسهامات الحقيقية له في خدمة التراث. ويعرض فكره فيما طرقه من مواضيع، سواء أوافقه فيها بعض الباحثين أم خالفوه، مبيّنًا رأيي في كثير من الأحيان. وإنّي لأرجو أن أكون قد لملمت شتات أعمال الشيخ في بحوث مختلفة ليطلع القارئ على زبدة هذه الأعمال ومغزاها في سياق ثقافتنا التراثية». بهذه الأسطر أوجز أستاذي الدكتور أحمد بن محمد الضبيب هدفه من كتابه (حمد الجاسر والتراث: قراءات في فكره ومنهجه) الصادر عن دار ملامح في الشارقة عام 2020م، في 267 صفحة. احتوى الكتاب بعد تمهيد عن (لمحات من السيرة الذاتية للشيخ حمد الجاسر) على أربعة أبواب: الأعمال الجغرافية، الأعمال التاريخية، الأعمال الأدبية، منهج الجاسر في تحقيق النصوص القديمة ونشرها. أما الباب الأول (الأعمال الجغرافية) ففصل ثلاثة فصول، الأول (البحوث الجغرافية) تحدث فيه المؤلف عن تقويم الشيخ المصادر الجغرافية القديمة معالجًا التصحيف والتحريف منتهيًا إلى التصحيح الموضوعي للأماكن كموقع سوق عكاظ والحجون والرَّبذة، وتحدث المؤلف عن المشروع الكبير وهو المعجم الجغرافي مبينًا أهدافه ومنهج المؤلف فيه ومصادره، وعالج منهج الجاسر في ترتيب المادة ودراستها وتصحيحها والرأي في الأسماء الجغرافية التي تغيرت في استعمال الناس، وبيّن التقصير في إيراد المعلومات وتجزئتها. وأما الفصل الثاني ف(رحلات الجاسر الجغرافية) وكانت عن «شمال غرب الجزيرة» و«سراة غامد وزهران» وبيّن المؤلف أن الجاسر يهتم في رحلاته ببيان «الموقع الجغرافي» و«الربط بين المكان وسكانه في القديم والحديث» واقفًا على «الآثار والتاريخ القديم» وما تستحضره من «ذكريات التراث الأدبي القديم» وأن الشيخ يهتم بما في تلك المواقع من «التراتيب الإدارية» العتيدة. وأما الفصل الثالث فعن (نشر كتب التراث الجغرافي) ومن هذه الكتب «بلاد العرب للغدة الأصفهاني» و«المغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآبادي»، و«كتاب المنازل وطرق الحج»، وبيّن المؤلف أن الشيخ اهتم بكتب الرحلات فنشر ملخصات لما كتبه الرحالون عن مواضع الجزيرة مثل «رحلة النابلسي» و«رحلة العبدري» و«رحلة العياشي» وغيرها. وأما الباب الثاني (الأعمال التاريخية) فجعله المؤلف في أربعة فصول، أولها عن «المصادر التاريخية والتعريف بالمؤرخين»، وأما ثانيها «البحوث التاريخية» فبحوث عن المواضع والمدن، مثل «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ» و«بلاد ينبع» و«شرقي الجزيرة العربية»، وبحوث عن الشخصيات التاريخية، مثل «ابن عربي موطد الحكم الأموي في نجد»، و«إسحاق بن إبراهيم بن حميضة»، وأما ثالثها فعن «الآراء والتصحيحات التاريخية» التي منها «موضع مولد النبي ? وبعض مساجد مكة» و«الحجون ومكانه» و«قبر السيدة خديجة رضي الله عنها وقبر عبدالمطلب وأبي طالب»، و«خرافة قبة اليهودية»، و«خرافة ضرب الطبل في بدر»، وأما رابع فصول الباب الثاني فهو (نشر النصوص ذات الصبغة التاريخية) تحدث فيه عن «كتب الأنساب القديمة» و«كتب الوقائع والحروب والحوادث الخاصة»، و«رسائل في تاريخ المدينة». وأما الباب الثالث (الأعمال الأدبية) فجعل في ثلاثة فصول، أولها عن (جمع التراث الأدبي القديم) مثل شعر «عبدالله بن همام السلولي»، و«شعر الصمة بن عبدالله القشيري»، وغيرهما، وثانيها (نشر النصوص المخطوطة) مثل «نونية الكميت الأسدي» و«كتاب من اسمه عمرو من الشعراء لابن الجراح» وغيرهما، وأما ثالث فصول الباب الثالث فهو (المستدركات) وهو عن جملة استدراكات الشيخ على بعض نصوص التراث، منها استدراكات على جملة من الدواوين مثل «ديوان الوأواء الدمشقي» و«ديوان ابن الدمينة»، و«ديوان زيد الخيل الطائي» وغيرها من الدواوين. وأما الباب الرابع (منهج الجاسر في تحقيق النصوص القديمة ونشرها) فهو ثمرة دراسة متعمقة لجهود الشيخ حمد الجاسر انتهى فيها أستاذي د. أحمد الضبيب إلى أن موقف الجاسر من منهج تحقيق التراث يتبين من أمرين: الأعمال التراثية التي نشرها، ونقد الأعمال المنشورة من كتب التراث، فللجاسر منهج في التحقيق موافق لما هو مشهور عند المحققين، فهو يرى (الهدف من التحقيق) إخراج العمل في صورة مطابقة لما وضعه المؤلف، وتبين لأستاذي د.الضبيب أن الجاسر كان حريصًا على ذلك إلا في ضرورات اقتضته حذف بعض نصوص مشكلة لا خير من إظهارها للناس مع أن الرقابة لها قيود تلجئ إلى ذلك. وبين د. الضبيب أن الجاسر يهتم لتجويد تحقيقه بجمع أكبر قدر من (النسخ الخطية) للكتاب المحقق، ولذا يعيب على من يعتمد في تحقيقة على نسخة واحدة، ومن منهج الجاسر أنه لا يكترث ببيان الفروق بين الن سخ الخطية، ومن منهج الجسر «الرجوع إلى المصادر والتخريج» ولكن د.الضبيب يأخذ عليه أنه قد يرجع إلى كتب موسوعية وسيطة فلا يكاد يرجع إلى الأصول، ويتصل بالرجوع إلى المصادر التخريج أي تخريج الآي والأحاديث والأشعار والأمثال والأقول، ويذكر أستاذي «أن الجاسر يغفل ذلك إغفالًا يكاد يكون تامًّا في كثير مما نشره». وأما (الضبط بالشكل) ف«لم يتخذ الجاسر طريقة واضحة في ضبط نص المخطوط بالشكل»، ولما كان هدف الجاسر إخراج الكتاب قريبًا من نسخة المؤلف تخفف من (التعليق على النص) فالغالب أن لا تعليقات ولاحواشٍ، ولكن قد نصادف تعليقات فيها إطناب وخاصة في كتب المواقع. وأما (المقدمات ودراسة الكتاب) فأولاها الشيخ عناية تامة حتى ربما تطول كما في كتاب المناسك إذ بلغت 263 صفحة. ولا يشك الجاسر في أهمية (الفهارس) ولذا يعد خلو كتب التحقيق من الفارس عيبًا، ولذلك ألحق بكتبه التي حققها كشافات عديدة، وربما تتضخم الفهارس كما في فهارس (الدرر الفرائد) التي بلغت 357 صفحة. «نحن إذن بإزاء شخصية تتشوف إلى الكمال والحق، وتدرك أبعاد معرفة الإنسان، مهما بلغ من العلم وما بذل من الجهد، ولذلك فهي تتقبل النقد، وتتطلب التجويد، وتؤمن بتراكم المعرفة والخبرة، فتفسح المجال لكل مجتهد، وترحب بالإضافة الجديدة، وتلك وأيم الله أخلاق العلماء». بهذا ختم أستاذي كتابه الجليل الذي زوى فيه جهود الجاسر، وهي جهود كثيرة متنوعة عميقة ليس يسهل أن يتحدث عنها في كتاب واحد، وأن ينالها من التعليقات والملحوظات والنقود ما هو ثمرة فحص متواصل ومتابعة دقيقة عبر سنوات من حياة المؤلف، أطال الله بقاءه وجزاه عن العربية وتراثها وطلابها خير الجزاء.