الفصول الأربعة ليست سوى أضلاع مربع تعيش بداخله ولكل ضلع أو فصل طقسه الخاص الذي يميزه عن الآخر، قد لا تجد صعوبة في التكيف معها، لكن الفصل الخامس والأهم هو المنتصف الذي يلازمك في الفصول كافة، الفصل الذي يلبسك هالته رغماً عنك، هذا الفصل مُدغم لا يكشف عن نفسه ولا يتغير، أنت من عليه إظهاره والبحث عنه والتغير معه.. ذاك هو «النضج» فصلٌ تتساقط فيه العلاقات الهامشية وتثمر فيه العلاقات السرمدية، فصل بارد خالي من العاطفة المبالغة والتعاطف الزائف لكن نسيمه العليل يجعلك ترفع رأسك للأعلى فخوراً بالنظر لأولوياتك وهي بأبهى حللها وأجمل صورها، فصل هادئ فيه تروض النفس انفعالاتها التي لا طائل منها إلا العبث بطاقة تجد أن توفيرها للمحكات الحقيقية يمنحك قفزات استثنائية تتخطى بها حدود المشكلات، للنضج مفاهيم كثيرة تصب في كونه أعلى مراتب الوعي والاستجابة لدى الإنسان، وكما نعرف جميعاً أن الإحسان أعلى مراتب الإسلام وقلة من تجدهم يمارسونه بالشكل الصحيح ! كذلك النضج قد يدعي الكثير أنه ناضج لكن الحقيقة ليست كذلك بالنظر لسلوكياته وملاحظة نفسيته ومعرفة معتقداته، أن تكون ناضجاً فذاك يعني أنك الرابح في كل معاركك الخاصة أمام الحياة لأنك تدرك تماماً أن الخسارة ليست خالية من الفرص كنقطة تحول أو درس كان مهملاً أو خيارات أخرى قد تكون الأفضل، أن تكون ناضجاً مسؤولاً عن نفسك وقراراتك واختياراتك يعني بالتأكيد لست ذاك الناقم الذي يعلق أخطاءه على أعناق الآخرين قلائد من الشكوى الثقيلة معتقداً أنها أسرار ثمينة تقربهم منه، أن تكون ناضجاً يعني بأنك قادر على أن تلمس تلك الشعرة الفاصلة بين الإقدام والاندفاع، بين الحذر والخوف، بين الحيطة والتردد، بين التفكير والتسويف، بين المبادرة والعجلة، حينها فقط سوف تدرك تماماً قدراتك الجديدة التي يمنحها لك هذا الفصل بعد أن تعاني معه القليل أو الكثير ويعود ذلك لشخصيتك ووعيك وسرعة بديهتك، سيمنحك القدرة على قراءة الآخرين والتنبؤ بمكنوناتهم، سيكسبك مهارة صناعة القرار حين تكون الأمور منوطة بك بدل أن تنفذها كروبوت مبرمج، ستعلمك أن النظر ليس مجرد حاسة بل مادة تستخدمها للكشف عما هو غائب عن عينيك، ستتبصر وتنتقد وتتنور وتحلل وتشرق من جديد ليسطع سناك في صدور وعقول مظلمة تشعر بها من حولك، ستحرص أن تورث الأثر الجيد؛ لأن الناضج الحقيقي يؤمن بثمن الكلمة ووزنها في كفة النفس ذاك لن يدفعه للكلمة اطيبة فقط بل تجده أحرص ما يكون على حفظ لسانه من الزلل وكثرة الجدل والحديث المبتذل، الشخص الناضج يرتكز على مبدأ الاحترام لنفسه لأخلاقه لمبدأه وللآخرين وأفكارهم وأهدافهم وتوجهاتهم، يؤمن بالاختلاف لا بالخلاف، يؤمن أن الحياة متسعة للجميع. ** **