يتسكع كعادته عندما يحل سائحاً في أي من بلدان العالم، ينثر همومه في الشوارع كذارٍ ينثر في الحقل البذور! في تلكم المدينة الأوربية المتوسطية، حيث ولدت الحضارة وترعرعت الفلسفة؛ كان يعبر من شارع اعتاد عبوره ليصل إلى مقهاه الذي يحتسي فيه قهوته الصباحية ويستحم بشعاع شمس تتسلّل من بين السُّحب المتراكمة! عند شجرة من أشجار الحمضيات التي تزيِّن شوارع المدينة، اعتاد على رؤية رجل مسن يجلس على مقعد خشبي تحتها. يكاد لا يخلف موعد حضوره اليومي معتمراً قبعة تشبه «الطفشة التهامية» في جنوب الجزيرة العربية، أو تلكم التي في المكسيك. وعلى يساره عصاه.. تجاعيد العُمر على وجهه ترسم خرائط العالم القديم والحديث! لم يكن يكترث الشاب بوجود ذلكم الرجل مع تكرار مشاهدته كل يوم ولا يعره اهتمام. وذات مرة وهو في طريقه إلى المقهى، لاحظ أن الرجل يمسك بصحيفة عربية شهيرة يقلب صفحاتها! هنا كانت المفارقة! استوقفه المشهد.. اقترب من الرجل خطوات وألقى عليه التحية.. رفع الرجل رأسه بتثاقل وحدق قليلاً في الشاب رد عليه التحية؛ ثم أكمل دون مبالاة تصفح جريدته. سأله الشاب أعربي أنت يا عم؟ قال: لا. قال فهل تجيد قراءة العربية؟ قال: أمي! لم يدرك الشاب عمق الإجابة أو ربما تجاهلها! لأن الفضول كان يعتصره لمعرفة حكاية هذا الرجل الغامض.. وإذا ما كان هناك سر يخفيه. حاول الاقتراب منه أكثر وسأله: لمَ تبخل عليّ بالحديث يا عم؟ قال: لأن ليس لدي ما أحكيه لك.. صمت برهة وأردف وهو يلتفت إلى ساعة معصمه العتيقة: لا تستعجل أمرك يا بُنيّ ما تتساءل أو تبحث عنه الآن سوف تخبرك به الأيام في قادم زمانك. وهم بالوقوف. فمد الشاب يده ليعينه على النهوض.. نهره قائلاً لست بعاجز! رد الشاب العفو منك؛ فقط كنت أود التودد إليك. أطلق العجوز تنهيد جاءت وكأنها صاعدة من أعماق بئر سحيق داخل جوفه.. وهو يتمتم: تباً لحياة أولها شقاء وأوسطها هروب وآخرها شفقة! ثم خطا خطوات قليلة نحو جادة الطريق ليصعد الترام دون أن يلتفت خلفه! أخذ الشاب بذهول يلاحق ببصره سير الترام حتى توارى عنه.. فاستدار وجلس على ذات المقعد الخشبي! ** **