في تأملات (عزلة كورونا) تبرز مفارقات حياتية ومعرفية.. لم يكن المرء ليلحظها في أحواله (العادية). فقبل أيام سمعت نفسي أقول لزوجتي: - تصوري.. لأول مرة منذ عام 1396 أجد نفسي أنا وأنت وحدنا تمامًا.. بدون أولاد..؟! فقد شاءت ظروف (الحجر الصحي) أن يكون أولادنا موزعين بين (عمان) و(الكويت) و(أستراليا)، وغير بعيد عنا في شمال غرب المملكة.. ونحن في حاضرة (جدة). وخالط فرحتنا بهذه (المفارقة الغريبة) حالة حزن واشتياق، سمعتها تقول على إثرها: - الله يجمع شملنا على خير، ويرد غربتهم... وكنت خلال انشغالها أحاول أن أعود ل(كتبي) التي أجَّلت قراءتها؛ فهالني أني أصبت بنوع من الدهشة وأنا أستعرض مجموعة غير قليلة من روايات كتاب (أمريكا اللاتينية)؛ فقد وجدت أني أمام ظاهرة فريدة في الأدب الإنساني، لم ألحظها من قبل، وأخذت أستعرض: - (السيد الرئيس) لميجيل استورياس، (خريف البطريك) لغاريسيا ماركيز، (حفلة التيس) لماريوفرغاس يوسا، (لماذا الدولة) لاليخو كاربنتييرا و(أنا الأعلى) لاوجستو روا باستوس. أما سبب دهشتي فيعود إلى أن كل هذه الأعمال الروائية وغيرها، التي كُتبت خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، تتناول شخصية (الدكتاتور) ممثلة في (القائد) السياسي، أو (رئيس الدولة)، وتقوم بصنع المفارقة المأساوية بين (السلطة الدكتاتورية) وما تجسده الكتابة في الفصل بين دور المثقف في مجتمعات أمريكا اللاتينية ودور (الدكتاتور) الذي يكرس نفسه كحاكم مطلق، وتنتهي حياته بطريقة تراجيدية، يجسدها العنف المضاد من رفاقه المقربين. ولا يخلو الطرح الروائي من التنوع الإبداعي.. وتباين أساليب التناول التي تقترح جماليات مفرداتها اللغوية.. وسمات تجديدها الفني وفق الحالة التي تقترحها شخصية الدكتاتور، ومدى تشبثه بالحكم، وطبيعة أساليبه القمعية والدموية.. بل إن هناك أعمالاً تم سردها من وجهة نظر الدكتاتور نفسه، مثل رواية (السيد الرئيس) التي كُتبت في مطلع الثلاثينيات، ولم تُنشر إلا بعد عام 46، ورواية (خريف البطريك) لماركيز، التي خبا بريقها، وتراجعت أهميتها بعد النجاح الكاسح الذي حظيت به رواية (مئة عام من العزلة). في (عزلة كورونا) جاءت رواية سرفانتس (دون كيشوت)، وتذكرت أني لم أقرأ أواخر فصولها رغم أنها أول عمل عظيم تُتاح لي فرصة قراءته؛ ففي مطلع الثمانينيات الهجرية قدَّمها لي الدكتور محمد الجودي، وكان حينها لا يزال طالبًا في مدرسة (دار التوحيد الثانوية)، بعد أن حصل عليها من مكتبة المرحوم (طالع الحارثي) الذي سبقه في الابتعاث إلى بريطانيا، وتوفي هناك بعد نحو عامين من ابتعاثه. أما الدكتور الجودي فقد رافقته سنوات خلال زياراتنا لمدينة جدة بصحبة صديقنا إبراهيم عبدالعزيز الفوزان، وافترقنا بعد رحيلهما لأمريكا لإكمال الدراسة العليا. وشاءت أقدار الله عبر أحوالنا معًا أن لا نلتقي بعد ذلك مطلقًا.. ولم تبقَ سوى ذكرى طيبة. أما (دون كيشوت)، الشخصية والرواية، فما زالت من أهم ما عشقت في حياتي، وظلت سنوات طويلة.. ومن أهم الأعمال التي أجد متعة خاصة عندما أعود لقراءتها كل عام أو عامين.. غير أني شعرتُ بغصة وألم وأنا أنظر لما تبقى في مكتبتي التي (توزعت) محتوياتها بين الأصدقاء ومدعي الرغبة في القراءة، ومحترفي نهب الكتب عن طريق الاستعارة.