أظن أن أصالة الحرية الإنسانية تكمن في فكرة حق التعبير المشاع والمكفول للجميع. فالقول هو أصل الحرية، وهو الشرط الأول لاستمرارية النوع الإنساني في استخراج أفضل ما يملكه من قدرات كامنة في داخله، لعمارة الكون، وتأريخ حضاراته وإرثه الثقافي جيلاً بعد جيل. في برنامج الليوان، وجه المذيع المتألق الأستاذ عبدالله المديفر سؤالاً إلى الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الروائي الدكتور محمد حسن علوان، قائلاً: «توجهكم في الرقابة على الكتب؟ هل تتجهون إلى مزيد من الانفتاح، أم مزيد من التضييق؟» فأجاب د. علون بما يلي: «سوف أجيبك من وجهة نظري، التوجه هو ما ذكره خادم الحرمين الشريفين في أحد المؤتمرات، أن الفكر يواجه بالفكر، وأن منع العمل قد يمنحه مسحة ثورية نضالية، قد تكون وهمية أو زائفة، تروّج له أكثر من إخفائه. ومن المفترض أن يكون التوجه العام غير خارج عن هذا النطاق، هناك خطوات لتخفيف الوطأة الرقابية، جعل الكاتب يكتب ما يريد، ويتحمّل مسؤولية أفكاره، كيف يواجه فيها المجتمع، كيف يقنع فيها المجتمع، كيف يستطيع أن يدافع عنها، ومن كان لديه اعتراض على هذه الأفكار فالمساحة موجودة ومتاحة له حريته في الرد على هذه الأفكار ودحضها وتفنيدها. هذا هو الذي سوف يحدث لنا حراكاً فكرياً اجتماعياً فلسفياً مفيداً، بدلاً من تغليب فكر على فكر بأساليب غير فنية وغير ثقافية». وكان الدكتور قد عرج في جوانب من حديثه على رغبة الهيئة في تهيئة البيئة المناسبة للكاتب السعودي لتمكينه من الإنتاجية، ورفع شأن الأدب السعودي، وإبرازه عالميًا. وفي اعتقادي أن هذا الفكر هو ما يحتاجه الأديب السعودي حقًا، فمتى توافرت للكاتب حرية الكتابة دون قيود، فإن ذلك سوف ينعكس حتمًا على شكل المنتج الأدبي السعودي الذي سيخرج من قفصه الضيق ويتجاوز خطوطه الحمراء (الهلامية)، بعد أن تعرض إلى كثير من التضييق والتشويه بفعل مقص الرقيب خلال السنوات الماضية. ربما يعترض البعض على هذا النوع من الانفتاح الفكري، وقد جرت مناقشات عدة بيني وبين بعض الأصدقاء من الإعلاميين والكتَّاب الذين ما زال البعض منهم يؤيد استمرار تلك الصرامة الرقابية في مواجهة الأعمال الأدبية، وذلك على اعتبارات غير منطقية بطبيعة الحال، إذ يعتقد أصحاب هذا الفكر أن الانفتاح يدعو إلى كتابة فضائحية، بوهيمية، لا تتناسب مع قيمنا وأخلاقياتنا. في الوقت الذي يتناسون فيه أن مقابلة الفكر بالفكر هي أفضل وسيلة لدحض الأفكار التي لا نرغبها وإبطالها دون الترويج لها. فالمنع والتضييق لا يدلان على قوة الحجة، بل على ضعفها. كما أن أبلغ رد يمكن أن أوجهه لأولئك المستائين من الانفتاح الفكري واحتجاجهم بأن الكُتَّاب سيجدون الفرصة الملائمة للمساس بالتابوهات المحرَّمة، دون حسيب أو رقيب، هو أن هذا الانفتاح سيحطم أي تابوه، إذ لن يعود المساس بها محرّمًا، ولن يشكل وجودها موضوعًا فنيًا لأي كاتب كان يتعمد المساس بها لأغراض ترويجية تحقق له المزيد من المبيعات والقراءات. نعم، هكذا هو الأمر بكل بساطة، فكل التابوهات هي من صنع الرقابة، وليست من خيال الكاتب. الأمر الآخر الذي لطالما أشبعناه طرحًا ونقاشًا هو اللا منهجية التي يجري بها العمل الرقابي لدينا، وتفاوت المعيارية التقييمة أو التقديرية للأعمال. ففي الوقت الذي يحجب فيه عمل عن الفسح، تجد أن هناك بعض الأعمال الأشد تجاوزًا متوفرة على رفوف المكتبات، مما يدل على مزاجية الرقيب في التعامل مع الكتب وفسحها، فضلاً عن المزاجية في منح الكتب المطبوعة لدى دور نشر أجنبية فسح التوزيع من عدمه لأسباب تخالف العقل والمنطق وكل المعايير، إن كان هناك ثمة معايير، وإن كان هناك من يلتزم بتطبيق تلك المعايير أصلاً دون الإحالة لأي أسباب شخصية تتعلَّق بمدى تقبله للكاتب من عدمه، أو مدى احترامه لأفكاره. الدكتور محمد حسن علوان نفسه، تعرَّض لمثل هذا التضييق في فسح روايته (طوق الطهارة) وقد تحدث عن هذه المشكلة علنًا خلال اللقاء الذي نظمته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بعد حصوله على جائزة البوكر عن روايته (موت صغير)، أي أنه يعرف جيدًا بطبيعة هذه المشكلة وإلى أي مدى يمكن أن تحبط الكاتب وتحجم مقدرته الإبداعية. لقد كان حديث الدكتور محمد حسن علوان يدعو إلى التفاؤل، وقد أشار من خلال رده على ذلك السؤال الذي وجهه المديفر، إلى خارطة الطريق كي يصل الأدب السعودي إلى العالمية، ويبلغ موضعه الحقيقي الذي كان من المفترض أن يبلغه منذ سنوات خلت لولا ما كان يتعرّض له الأدباء من تضييق ومهاجمة وإقصاء، وما تجده أعمالهم من تشويه رقابي. ** ** - عادل الدوسري