«سُرعة البديهة»، أو الجواب السريع والذكي للتخلّص من المواقف المُحرِجة، يتطلّب حضورًا ذهنيًّا وذكاءً فائقًا، لا يتوافر عند معظمنا؛ لأنّه فنٌ وعلمٌ، لا يمكن تحصيله بسهولة؛ يحتاج لقاعدة فكرية وثقافية، لا يملكها كثيرٌ من الناس؛ لأنّ تحصيلها يحتاج للجهد والمثابرة. كثيرٌ منّا يندم لأنّه لم يستطع التصرّف بصورة مناسبة ردًا على بعض المواقف المُحرجة؛ لأنّ ذاكرته خانته، ولم يردّ على أحدهم رماه بكلمةٍ أغاظته، فيتذكّر لاحقًا بعض الأجوبة والردُود التي يجدها مناسبة، لكنّه يكتشف أنّ أوانها قد فات، ولم يعد يصلح أنْ يقولها في هذا الوقت المتأخر؛ فيشعر بالغصّة؛ لأنّ ذاكرته وذكاءه لم يُسعفاه بالردّ المناسب في الوقت المناسب. وقد يندم أحدنا لأنّه ارتكس بطريقة عصبية على بعض المواقف، واستعمل ألفاظًا غير لائقة، لكنّه يشعر بالندم أكثر لأنّه لم يستطع الردّ على تلك المواقف بطريقة ذكيّة؛ فتبقى حالة الندم تُعذّبه؛ يلوم ذاكرته؛ لأنّها لم تُعنه ليتصرّف بطريقة مناسبة ولائقة؛ فيردّ فيها على غريمه؛ ليقلب حرجه وورطته، ويرحّلها عنه؛ لتستقرّ عند خصمه. الأدب الإنساني مليءٌ بالمواقف الذكيّة والردود المناسبة للمشهورين والأدباء وغيرهم، ممن تعرّضوا للإحراج في الفعل والقول، لكنّهم استطاعوا أنْ يردّوا عليها؛ فيحوّلوا الحرج إلى غُرمائهم وخصومهم؛ فتنقلب الصورة تمامًا. وهذا أحد الكتّاب يخاطب «برنارد شو»، ويقول له إنّه يكتب من أجل الشرف بينما «برنارد شو» يكتب لأجل المال، فردّ عليه «برنارد شو» بعفوية بالغة: «كلٌ يبحث عمّا ينْقصه!!». أمّا الأدب العربي والإسلامي، وتراثه العظيم، فمليءٌ بالقصص التي تدل على حنكة العرب، وسرعة بديهتهم وذكائهم، وهي قصصٌ لا تُحصى. ومن الطرائف أنّ رجلًا قال للمتنبي: «رَأَيْتُك مِنْ بَعِيدٍ وَظَنَنْتُك اِمْرَأَةً!!». فردّ المتنبي قائلًا: «وأنَا رأيْتُك من بعيدٍ وظننْتك رَجلًا!!». بعض المعاهد والمدارس الغربيّة تقوم بتهيئة أبناء المشاهير والأثرياء، وتعلّمهم طريقة الأكل والمشي و«الإتيكيت»، لكنّها في الوقت نفسه تقوم بتدريبهم على كيفية التعامل مع الناس، واختيار الردود المناسبة والألفاظ اللائقة والذكيّة، خاصة في المقابلات الصحفيّة والإعلامية، وتسعى إلى تهيئتهم؛ ليستطيعوا التخلّص من الإحراجات والأسئلة، وحتى يحتفظوا بحضور الذهن والبديهة، وعدم التصرّف بعصبية. أمّا نحن فلنلجأ إلى مخزوننا التربوي والثقافي البسيط، الذي قد يُعيننا على تجاوز بعض المواقف، لكنّها قد تكون ناقصة ومبتورة، لا ترتكز على قواعد راسخة!!.. ولو فتّش أحدنا في ذاكراته عن هذه المواقف لوجد أنّ مخزونه خذله؛ فلجأ إلى العصبيّة أو التصرف بغباوة؛ فيشعر بالندم؛ فيتمنّى لو أنّ الزمان عاد به ليقول أو يتصرّف بطريقة أخرى، ولكنْ هيهات له ذلك!! كلُّ إنسانٍ لديه حصاد عمره وماضيه، ويحتفظ بذاكرته بأفعاله وأقواله، وقد يتذكّر بعضها بحرقة وألم، ويتمنى أنْ لو دار الزمان وعاد للوراء حتى يُعيد التصرّف بطريقة مغايرة!!.. لكنّها -للأسف- شخصية الإنسان وطباعه التي لا تتغيّر، ولا تتبدّل، ولو تكرّر الموقف معه مرة أخرى لتصرّف بالطريقة الأولى نفسها!! سُرعة البديهة هي صورةُ تعكس شخصيّة كلّ واحدٍ منّا، ولا يستطيع أنْ يتجاوزها، ولا يستطيع أنْ يُغيّر ويبدّل حاله؛ لأنّها من طبيعة الإنسان وتكوينه؛ فهو إنْ كان أخرق فلن تستطيع الدروس والمعاهد والتجارب تغيير طباعه!! وإنْ كان عصبيًّا فستبقى أعصابه متوترة، ولا يمكنه السيطرة عليها في المواقف المُحرجة!! وإنْ كان لطيفًا وهادئًا وذكيًّا فإنّه يستطيع أنْ يسجّل صفحاتٍ ناصعة في سرعة البديهة!!