سمعتُ صغيري يهمس في أذن أخته بجملة، وقال لها بصوت منخفض هذا سر بيني وبينك، وبعدما لاحظا وجودي في الغرفة، نظرا إلى بعضهما البعض، وحاولا أن يغيرا الموضوع بسرعة. فقال صغيري لأخته وهو يبتسم ويهز رأسه: لم يعد سراً بل أصبح الآن خبراً. فقالت له بسرعة: ولكنه خبر في قضية يحظر فيها النشر. قبل أن تتعالى ضحكاتهما، وأسرعا نحوي وأخبراني بأنهما يعدان لمفاجأة لوالدتهما، قائلين لي من فضلك أبتي نريده سراً بيننا وبينك فقط، وليس سراً علنياً أو خبراً للنشر. سألت صغيري أيعرف ماذا يسمي تصرفه هذا بعدما لاحظ وجودي في الغرفة؟ فردت علي أخته بتلقائية شديدة: أظنها “سرعة بديهة” يا أبتي! فقلت لهما: نعم سرعة البديهة أحبائي والتي يفتقدها الكثير منا، وأنهيت حواري معهما، ووعدُتهما بأن أُساعدُهما في ترتيب المفاجأة التي يعدونها لوالدتهما، وخرجت أفكر في الموقف، مسقطاً إياه كعادتي على عملنا الإعلامي الذي ينبغي أن يتسم العاملون فيه بسرعة البديهة وفن الردود السريعة. سرعان ما راودتني تلك الأسئلة الحائرة التي دوماً ما تفرض نفسها بإلحاح علي: كم من مشهد ضاغط تلاحق فيه نبضنا وتصبب فيه عرقنا، بعد أن حرنا جوابًا وأعيتنا الحيلة عن الرد؟!. وكم من موقف محرج مرَّ بنا وتمنينا معه أن الأرض تبتلعنا، ونكون نسيًا منسيًّا، حيث انعقدت فيه ألسنتنا وتاهت حجتنا أثناءه ؟! أما زال بعضنا يفتقد لمهارة سرعة البديهة وفن الرد في عمل يتسم دوماً بالمفاجآت والمواقف المحرجة التي تستدعي الرد السريع؟ وهل هؤلاء الصغار يتفوقون علينا في امتلاك هذه المهارة، التي أصبحت ضرورة ملحة من ضروريات العمل الإعلامي؟! سرعة البديهة في العمل الإعلامي-والتي يعرفها الخبراء بأنها القدرة الذهنية العالية-، هي التي تساعد الإعلامي على التجاوب السريع مع ما يتلقاه من الخارج من ردود ومفاجآت، ليستوعب ما يُقال له، فيبدي ردة الفعل أو التصرف المناسب على ما تمّ تلقيه بأقصى سرعة ممكنة، وخاصة إذا ما تعرضوا للكلمات التي قد لا تعجبهم، وتسبب لهم حرجاً أو ضيقاً. والقليل من الإعلاميين هم من يستطيعون أن يرسلوا الكلمة غير المتوقعة بمزيج بين الجد والهزل بأثر أشد على السامع من وقع السهام، وهؤلاء هم من يمتلكون مهارة البداهة وفن الرد. سَعِدَ مَن يمتلك هذه المهارة منّا، ومن لا يمتلكها ينبغي عليه أن يسعى لذلك، فهي مهارة مكتسبة -كما يقول الخبراء-كمهارة قيادة السيارات، أو ركوب الدراجات، أو الطيران الشراعي. فالبداهة واستحضار الجواب في العمل الإعلامي تمكن الإعلامي من إدراك الأشخاص المحيطين به، وإبداء حالة عالية من التجاوب السريع مع الأحداث الملموسة والمفاجآت التي يتعرضون لها. وتعد هذه المهارة من نقاط القوة التي تميز شخصية الإعلامي عن غيره، حيث يمكنه الاستناد عليها ليؤثر على الآخرين بشكل إيجابي، ويتخلص من المواقف المحرجة التي يتعرض إليها، وهو ما يفتح أبواب النجاح في التعامل مع معجبيه قبل منتقديه. سرعة البديهة واستحضار الرد الحاضر السريع والذكي في نفس الوقت فن ومهارة من المهارات العزيزة التي لا تُكتسب إلا بالمران والتدريب، ورصد المشاهد، ومتابعة المتقنين لتلك المهارة، وقراءة سيرهم، وقراءة وحفظ الأشعار، والحكم والأمثال، والكلمات المعبرة؛ لتكوين حصيلة لغوية كافية لتقوية هذه المهارة، التي تحتاج إلى شجاعة وإقدام وثقة في النفس. ولكن كلما كانت سرعة البديهة بلسان هادئ ودون انفعال كانت أبلغ أثرًا وأشد وقعًا، وابتعدت بك عن العجرفة، فسرعة البديهة تتطلب منك سرعة في التفكير، وسرعة في الجواب، وسرعة في التصرف، كما سأفعل الآن بأن أحضر هدية أقدمها لزوجتي كما فعل صغاري اللذين ائتمناني على سرهما غير العلني.