توقفت كثيرًا لأتفكر في وجودنا الكُلي، وذلك حين قرأت للمرة الأولى مصطلح (عجز الروح) في كتاب مدخل إلى الميتافيزيقيا لمارتن هايدغر، والذي نقل إلى العربية على يدي د. عماد نبيل. كان هايدغر يتحدث عن الحالة التعليمية وتقهقر دور الجامعات كقوة أساسية للوحدة والمسؤولية في المعرفة، وعن دور العلم وأقسامه قائلًا: «وعلى الرغم من أننا نشهد في الوقت الحاضر على ما يبدو صراعًا بين مفهومين للعلم، الأول العلم كمعرفة تقنية، فنية، عملية، ومهنية، في حين يقصد بالمفهوم الثاني، العلم كقيمة ثقافية بحد ذاته، فإن كلا المفهومين يتحركان على المنحدر نفسه من سوء التأويل وعجز الروح». لقد آمنت أن الوجود لا يخرج عن حالتين، أحدهما سطحي جدًا، والآخر غائر في أعماق الكون وتراكيبه وإشاراته الرمزية واعتباراته الفلسفية وتعقيداته، إنه يُشكل قوة منفردة تتجابه حينًا وتتكامل في حين آخر مع القوى الأخرى التي يقوم عليها الوجود. فأما الوجود السطحي، هو الحدوث. الحدوث لمجرد الحدوث، هو الإثبات الحسي، إنما ببراعة وفطنة فارغة، ميتة، جوفاء وباردة وصدئة من الداخل. وهذا هو الحال الذي ألفيت عليه اليوم الكثير من معارفنا، فنوننا، آدابنا، علومنا، تراثنا، والتي تتشكل في مجموع ثقافتنا الكُلية، لتكون رمزًا ومرجعًا أو نمطًا أو ثقافة تُستنبط عن هذا الزمن -الذي نعيشه الآن- بعد مئات السنين، أو ربما فلكلورًا شعبيًا (لا شعبويًا) يدل على فداحة الواقع، وسيادة المظهرية، وترميز القشور، وتقديس السخافة، وتثقيف اللاشيء بمنحه المظهر، الذي ما يلبث أن يتداعى أمام قوة المعنى. فضلًا عن ذلك، انبلجت قبل عدة أيام، محاولات ميديائية هشة، تحاول أن تشكل رمزًا حيًا لما يسمى ب(ترويح -من مصدر روح- الثقافة، أو إحياء روحها الميتة في صرامتها المكتسبة من ماديتها البحتة) غير أن هذه المحاولات ليست إلا نوعًا من الخذلان الجديد لما يفترض به أن يستقر في داخل الروح من أثر الثقافة والآداب ومعانيهما. أقول خذلانًا لأن العالم يبني حضارته ويسجل حضوره التاريخي والمستقبلي، بمعانٍ أدبية، وأشكال معلوماتية، تبدو عصية الفهم والقبول على أولئك الذين انشغلوا في ترويج التفاهة والمظاهر عبر وسم #BooksasOutfits الرائج جدًا عبر تويتر، ومن خلال حسابات شخصية، أقصت العقل الثقافي وجعلته يتبنى أدوارًا لا تليق بنباهته ووقاره، أدوارًا أقل ما يُقال عنها أنها مُرَاهقَة ثقافية (جوارحية)، ووجود تافه. فماذا يعني أن يرتدي المرء ملابس تتناسق مع الغلاف الخارجي لكتب علمية أو فلسفية أو ثقافية أو أدبية، وما هو المعنى الذي يفترض أن أحمله من ذلك الشكل الوجودي المخزي لإخراج الكتب من وقارها ومكانتها (المكتباتية) فوق الرفوف -وإن كانت بالغة الصرامة والجمود بل وحتى الجحود- إلى دولاب الملابس، هل أبالغ إن قلت: لا شيء غير «العار»! المشكلة لا تكمن في محاولة ظريفة من حسابٍ شخصي أو حسابين أراد أصحابهما اصطياد الدعم والمتابعة بطريقة جديدة خارج الأنماط المألوفة لأولئك الذين تعنيهم الأرقام، ويريدون -في الغالب- أتباعًا لا متابعين. إن المشكلة تكمن في أمرين تحديدًا، الأول هو الانجراف وراء تلك الحسابات بشكل يثير الاستغراب ومن حسابات لها مكانتها من حيث الاهتمام القرائي والوجود الثقافي، وتسويق الأمر على أنه شكل من أشكال الجنون الفلسفي وكسر القيود، وتحطيم النظام، وإسقاط الجدية، وإثبات الوجود بطريقة تسود عليها شكلية (الأنا الهزلية الهازئة) التي سرعان ما تبددت في سياقات التقليد الأعمى. أما الثاني فيكمن في ظن هؤلاء، أو فلنقل -كذبهم على أنفسهم- بأن ما يفعلونه هو محاولة لبعث الروح في أجساد الكتب، ومبادرة لإخراجها -ولو بطريقة مقززة خالية من المعنى- من عفونة الرفوف المغبرة، وحمايتها من التآكل وهجوم الأرضة، ومنح ذلك الكم الهائل من الصفحات أرواحًا تخفف من حدة سياقاتها، الدلالية أو العلمية، أو الأدبية أو الوصفية أو حتى الروتينية. حسنًا إن هذه محاولة صاحبها سوء التأويل لواقعنا، لذلك فإنها -رغم انتشارها- لم تخرج وجودنا الثقافي من حالة عجز الروح، بقدر ما هوت به في غياهب العدم، وإشكالات اللامعنى! يقول مارتن هايدغر: «حالما يتم طرح سوء التأويل هذا الذي يحط من قدر الروح وينزل بها إلى مستوى آلة، فإن نشاطات العملية الروحية وفعالياتها، مثل الشعر والفن والدولة والدين، تصبح موضوعًا للحراثة والتخطيط والتصميم الواعي وتموت فيها الروح». إذن، بهذه الطريقة الساذجة، فإن وجودنا لا يمكن أن يبرهن عليه، ولا يمكن أن نراهن على تأثيرات المعاني سايكولوجيًا، فنحن بهذه الطريقة لا نزيد على أن نكون مجرد حالة حدوث، حدوث بلا جدوى، مجرد تكرار لأنماط التفاهة التي لا يمكن لها أن تمسك بالمعنى، أو تصدره خارجيًا. ** ** - عادل الدوسري [email protected]