منذ أن قدم الناقد مصطفى ناصف "قراءته الثانية" للشعر العربي، مستخدماً هذا المصطلح قبل أوانه، وتوالت دراساته عن اللغة والبلاغة والاتصال والنقد القديم، وقراؤه يحارون في كيفية الافادة من أعماله، إذ لا يعمد إلى شرح جهازه النظري ولا توضيح منظومة إجراءاته، بل يبتكرهما خلال الكتابة ذاتها بعفوية شديدة، ويجتهد في إخفاء معالمها، مما يجعله غير قابل للنسخ أو التقليد. مصطفى ناصف من هذه الوجهة ناقد مبدع حقاً كما وصفه الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، واستحق بذلك كتاباً منفرداً وضعه ناصف عن شعره. ولكن الإبداع عنده يمتزج بقدر من الاختلاق، وافتراض دلالات لا يبوح بها النص ولا يومئ إليها، فنجده يعزو للناقة مثلا في الشعر الجاهلي في قوة اسطورية وكونية خارقة لا تمتلكها آلهة الأولمب. وسنجد أن الكلمة السحرية التي أخذت تفتن ناصف الآن، خصوصاً بعد ابتعاده النسبي عن النقد الجديد الذي صحبه طويلا، وقربه الودود من المدرسة الألمانية هي كلمة التجربة. كأن يمكن اعتبارها كلمة السر في ممارساته النقدية والفكرية، غير أنه يمنحها طاقة هائلة تتجاوز حدود المعرفة العقلية لتأخذ طابعاً عرفياً صوفياً يدعو للتواصل الأليم مع مجريات الحياة الباطنية للوجود. إنه يمنحها بعداً ميتافيزيقياً غائراً في قلب الانطولوجيا متجاوزاً تناقضاتها. ومن الطريف أن نلاحظ حال "الانهمار" التي يتدفق بها ناصف في السنوات الأخيرة وهو على مشارف الثمانين من عمره، فقد أخذ يكف عن التقطير البخيل بالكلمات، وتتسارع معدلات انتاجه في فترة الشيخوخة كأن يفوق ما نشره في الأعوام الخمسة الأخيرة كل ما سبق له من تأليف في حياته، ويكفي أن نتذكر أنه خلال شهر آذار مارس من هذا العام أصدر كتابين دفعة واحدة، أحدهما بعنوان "النقد العربي: نحو نظرية ثانية"، المنشور في سلسلة عالم المعرفة، آذار مارس 2000، والثاني بعنوان "نظرية التأويل" المنشور في النادي الأدبي الثقافي في جدة، آذار مارس 2000 ايضاً، مما يدفعني لأن أتذكر نصيحته لي بالادخار في الشباب متصوراً أنها تحولت لديه إلى شيء من الإسراف في الشيخوخة. وهو إسراف لا يخلو من حرارة فائقة، وحماسة شديدة. ويبدو أنه تخلى عن التباعد والحياد، وأفصح في نهاية الأمر عن استراتيجيته الحقيقية في البحث والتفكير. فلم يعد يكتفي بالإشارات الواردة عرضاً، ولا التهويمات المبهمة قصداً، بل أخذ يتبنى بشكل صريح مباشر دعوته الى مذهب بعينه، اسماه أخيراً وأعلن انتماءه إليه، وعشقه له، وبالغ في ذلك إلى درجة تثير دهشة قرائه ومحبيه. كنت دائماً أدرك ولو بشكل غامض أن مصطفى ناصف ناقد تأويلي، لكنني لم أكن أتصور أنه ينتمي إلى هذا الجناح الذي وصفه الناقد الايطالي أومبرتو إيكو بأنصار التأويل المفرط، بل نجده قد بلغ في إفراطه الدرجة القصوى في هذا الكتاب الأخير "نظرية التأويل" إذ يقدم مفهومه للتأويل بما لا يجعله مجرد نظرية معرفية أو نقدية لها أصولها الفكرية ومصطلحاتها الدقيقة، بل باعتبارها نشاطاً واسعاً يشمل كل شيء في الوجود الثقافي، للعرب وغيرهم، على رغم إصراره الطريف أحياناً على إطلاق وصف العروبة به. فقراءة النصوص تأويل، وتفسيرها تأويل، وهو يعرفه في مقدمة كتابه بأنه "المعنى الغائب المستور الذي نحلم به ونشتاق إليه". يقصد البحث عن هذا المعنى الغائب، وكل معنى لديه غائب، بدليل أن "الثقافة العربية أولت الثقافة اليونانية والفارسية، وأوّلت النهضة الأدبية القديمة الشعر العربي أكثر من مرة، أول المجددون شعر القدماء، وأول الشعراء بعضهم بعضاً، وكان الشعر العربي كله نمطاً من التأويل المستمر". بل يذهب ناصف في إفراطه الى درجة أن يعتبر جميع العلوم اللغوية والأدبية والدينية من النحو والبلاغة والفقه مجرد أدوات للتأويل، الأمر الذي يجعله مرادفاً للفهم والتفسير، بما يفقد به خصوصيته المنهجية، وحدوده الإصطلاحية، ويمعن صاحبنا في هذا الشطط فيعتبر التأويل ماثلاً في النشاط اليومي الساذج للإنسان العادي. وأحسب أن هذه الطريقة في تعميم التأويل تباعد تماماً بين المؤلف وهدفه في الدعوة. فإذا لم توضع حدود للمصطلحات، ودخل كل نشاط عقلي إنساني في مفهوم ما، فقد هذا المفهوم كيانه وذاب في غيره. وهذا إفراط معكوس ينقض الهدف من الدراسة، وإطلاق التسميات العربية عليه من قبيل التوهم، فهناك مفارقة واضحة بين هذا المعنى الفضفاض وما يحاول أن يثبته مصطفى ناصف من أن التأويل حسب عبارته "جوهر الثقافة العربية، حتى أننا يمكن أن نقول: أنا عربي، إذن فأنا مؤول"، ذلك لأن هذه المعارف والأوضاع والمواقف لا يمكن أن تختص بها لغة ولا ثقافة، ولا أن تكون نظرية لعلم واحد، بل هي مجرد فكرة شديدة العمومية والتبسيط، تنتهي هكذا إلى مجرد لعبة لغوية نضع فيها كلمة التأويل مكان كلمات أكثر تداولاً مثل "الفهم" و"التمثل". ولأن الإفراط يعتمد على الفهم الذاتي البحت فإن الناقد ناصف يقع في مفارقة أخرى عندما يصر في جميع أجزاء الكتاب على اعتبار التأويل "فينومنولوجيا" من الدرجة الأولى - إشارة لمذهب "هوسرل" في الظاهرانية 1859 - 1938 المضاد للمذهب الفلسفية الجوهرانية. ويضع هذا النشاط في مقابل القراءات الحداثية قائلاً "العالم العربي الآن لا يقرأ الفينومنولوجيا بمثل ما يقرأ البنية والعلامات والتفكيك.. أنا واضح كل الوضوح، إيماني بالفومنولوجيا أكثر من إيماني بالبنية والتركيب والتفكيك والمفهوم الشائع للعلامات وفي تقديري أن القضية لا تدخل منطقة الإيمان واليقين بمنهج ضد مناهج أخرى، وهي كلها في نهاية الأمر منبثقة من المنبع الفلسفي الظاهراني ذاته وهو المنبع الذي يشدها كلها إلى منطقة الفلسفة العلمية غير الجوهرانية، لأن العلم يخضع لنظريات التكذيب المستمرة، ولا يمكن أن يتحدد التأويل في رؤية ما هو واضح ومفهوم ومسلم به. لأنه في صميمه جهد إبداعي لاكتشاف الالتباس والغموض الكامنين في جذور الأشياء والكلمات. ويبدو أن استخدام النقاد الألمان، وناصف يتبعهم حرفياً، لمصطلح التأويل الفينومنولوجي يهدف الى استبعاد أشكال التأويل الميتافيزيقي التي مارستها الثقافات القديمة كلها في قراءة نصوصها الكبرى وتطويعها للفكر العقلي قبل عصر العلم. وعلى رغم تكرار ناصف لكلمة الفينومنولوجيا مئات المرات في صفحاته، فإن هذا لا ينبغي أن يخدعنا عن عشقه الحقيقي للفكر الجوهراني شبه الصوفي، ومعايشته الحميمة للفلسفات المثالية، واستغراقه فيها. ومن ثم فإنه يرتكز في عرضه لمفاهيم التأويل وتطوراته، لا على المبادئ الظاهرانية المحدثة في عصر العلم - وإنما على بداياته الأولى عند المدرسة الألمانية في القرن الثامن عشر طبقاً لمصدرين فقط لا ثالث لهما، هما كتاب "بالمر" عن الهرمينيوطيقا وكتاب "غادامر" عن الحقيقة والمنهج. فيعرض لآراء "شلا يرماخر 1768 - 1834" ويشرح مستويات التأويل التي كانت شائعة في الثقافة الوسيطة، ويتبع "بالمر" في تحديده لها بثلاث: التاريخي واللغوي والروحي، وهذه الفكرة ضاربة بجذورها في الثقافة منذ قرون سابقة على المدرسة الألمانية، فدانتي الايطالي 1265 - 1321 مثلاً يقدم في الكوميديا الإلهية هذه المستويات، ولكن اللافت لدى ناصف أن العصور كلها تتجاور عنده، وتتحاور أيضاً، بحيث يستطيع أن يفتن بفكرة لامعة من العصور القديمة دون أن يعني بتتبع مسارها وتشكلاتها التالية لدى الأجيال اللاحقة، بما يمثل رؤية لا تاريخية للفكر والثقافة، قد نصادفه عاكفاً على عنصر كلاسيكي أو لمحة رومانتيكية باعتبارهما خلاصة المعرفة البشرية الراهنة، من دون أن يأخذ في اعتباره الفوارق بين الإبداع والفكر النقدي عنه، بين تاريخ العلوم وأوضاعها الحالية، فهو يعجب هنا مثلاً بأفكار "شلايرماخر" عن البعد النفسي للتأويل، متناسياً أن هذا كان سابقا على نشأة علم النفس على يد "فرويد" بعده بقرن كامل. ضد المنهج العلمي لكن أفدح ما أدهشني في نظرية التأويل عند ناصف أنه وضعها في صيغة مضادة تماماً للمنهج العلمي، اعتماداً على مقولات "دلثاي 1833 - 1911" مرتكزاً إلى أن "العلم يحتاج إلى تصورات ومفاهيم ثابتة، ولكن التأويل محتاج إلى الحياة أو التجربة أو الروح". وهنا يتجلى الوجه الحقيقي لهذه الدعوة التأويلية بمنطق القرن التاسع عشر، فهي تتجاهل ما يمتاز به الفكر العلمي من حركية مستمرة وتعديل دائب لمقاولاته، إذ كانت تتوهم أنه مبني على تصورات ثابتة، كما أنها ترفض المنهج أو المناهج المنبثقة عنه، ولا يمكن أن يكون رفض المنهج في بداية القرن الحادي والعشرين إلا إطلاقاً للفوضى والمزاج الشخصي والنزعات الذاتية المثالية المعتمدة على الهوى. بما لا يقدم تراكماً لمعرفة متنامية ولا تطويراًَ لأدوات تتجاوز نطاق الكشف الفردي لتتقدم بالبحث الإنساني للأدب وفكره خطوات إلى الإمام. والطريف أن ناصف لا يرى من الاشياء إلا ما يريد أن يراه فحسب، ففي عرضه لأفكار جادامو - شيخ الفلاسفة الألمان الذي أكمل هذا العام قرناً كاملاً من الحياة الخصبة - لا يناقش اضافات "أيزر"، بل يقف عند حدود ما قاله المعلم الألماني في الحقيقة والمنهج، فيحمل بشدة على المنهج العلمي، لكنه ينقل مشهداً بديعاً عن استقلال العمل الأدبي لا يستخلص منه نتائجه الضرورية. ينقل ناصف بعض السطور عن بالمر وجادامر، دون وضع لأية أقواس بطبيعة الحال، لأنه يمزج كلماته بكلمات الآخرين، ويجذبهم في اتجاه أفكاره ومطارحاته بلغته الخاصة، لاحظ وصف الكبرياء والاقتحام، ثم - وهذه هي المفارقة العجيبة - يستنتج منه نتائج مضادة تماماً لاستراتيجيته الاساسية. يأخذ ناصف في شجب فكرة النظام ذاتها - وهي أساس البنيوية وما بعدها من مناهج ظاهراتية، معتبراً مفهوم العلامات ونظمها مجرد نزوات شخصية، وإذا ما استخدم غادامر مصطلح البنية بصراحة ليعبر عن طبيعة التأويل لديه وارتباطه بنظرية تداخل الآفاق في التلقي بادر ناصف بحذف هذا المصطلح والاعتراف بذلك لأنه لا يروق له، ولأن الفكرة المسبقة لديه تعتمد على تهميش النظام وجرّ التأويل إلى مرحلة ما قبل البنيوية التي تجاوزها على يد جادامر وأبرز معا، حيث اخذت نظريات القراءة والتأويل في سد الفراغات والثغرات الشكلية وتصويب النواقص المنهجية في شرح عمليات التلقي وجمالياته، لشرح آليات التحام الآفاق وصولا إلى تشكيل نظم جديدة أكثر كفاءة في الاحاطة بالظواهر الإبداعية. لعلّ ناصف - ابن العالم الثالث الذي لم يدخل عصر العلم بعد، مبدعاً فيه ومتمثلاً لأصوله، فهو يعمد إلى بديل آخر، مرتبط بمواقف النقاد العرب منذ بداية النهضة حتى الآن، وهو الهمّ الإصلاحي، فيأخذ في التغني بمآثر التأويل بطريقة شعرية، يلهج فيها بذكر محاسنه، مكرراً اسمه مئات المرات في كل فصل من الكتاب، حتى ينتهي به - وهذه هي المفارقة الأخيرة - إلى أنه منهج للإصلاح وتغيير الثقافة العربية، مع أنه مضاد لديه لكل منهج فيقول في نهاية الفصل السادس: "التأويل إذن طوق نجاة أو طوق حياة حقيقية، التأويل أسلوب كسب للحياة، وأى شيء أولى من اسلوب الحياة، بالعناية.. إن نظرية التأويل لا يمكن أن تنفصل بحال عن مطالب إصلاح الفهم أو اصلاح المشاركة وإحياء فكرة السؤال المنتج"، ثم يقول إن "التأويل يؤدي الى ازدهار الثقافة". وهكذا يتحول الشيخ إلى داعية يودع برودة الكلمات ليصرح بما يؤمن به، ولأنه يحترم الاختلاف ويدعو الى تفعيله عبر الحوار، فليأذن لي أن أرحب مثله بنظرية التأويل، لكن باعتبارها منهجاً مضبوطاً شبه علمي لا يخرج على الشروط الموضوعية للمعرفة والخبرة الإنسانية، بل يزيدهما ثراء في اكتشاف تقنيات التوليد الدلالي وتلاحم الآفاق الجمالية، مما يعزز التفهم الودود ويبتعد عن التطرف اللدود، ولا ينتسب إلى لغة أو ثقافة مغلقة، بقدر ما يستنفر في أعراق كل ثقافة كفاءتها في التواصل الجمالي مع موروثها والانفتاح الحر على روح عصرها. * ناقد وأكاديمي مصري