ذاتَ يومٍ أنشَدَ الشاعرُ أحمد بخيت قائلًا: الْحُبُّ وَالْقَتْلُ فِي الْمِيزانِ.. أَيُّهُما *** يَا كفَّةَ الْحُبِّ زَادَ الْقَتْلُ.. فَاتَّزِني!! فجاوبَتْهُ زقزَقَةُ العصافيرِ، في وَجْهِ صباحٍ باسِمٍ، بأنَّ الحربي ما جاءَ إلا لِيَعْتَدِلَ ميزانُ الأغراضِ، وتنضبط كِفّة الرومانسية التي كانت تتأرجَحُ في مواجهةِ البشاعةِ والقبح والتدمير، ويفيض الحب فيغطي كل شيء، حتى قلوب القساة، وصدور الظالمين. أليسَتْ هي بِيئَتَنا العربيةَ التي أنجبت يومًا شاعرًا بحجم جرير شَتَمَ فهَتَكَ، وَسَبَّ فأوجع، وقال في زوجته الراحلة بين كفيه: لَوْلَا الحْيَاَءُ لَعَادَنِي اسْتِعْبَارُ *** وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ وَالْحَبِيبُ يُزارُ مُستَحِيًا من ذرْفِ الدموع على امرأة هي شريكة عمره، ورفيقة قراره.. أقول: أليسَتْ البيئةُ العربيةُ التي أنجَبَتْ هذا الشاعر هي التي احتفَتْ بالإغارة، وَمَدَحَت القبيلة والسيف، ورَثَت الصرعى، إنما المحَبَّةُ فيها توارَتْ خلف (كواليس) الشجن، ألم يقل ابن البيئة العربية أبو فراس: إِذَا اللَّيْلُ أَضْوَانِي بَسَطْتُ يَدَ الْهَوَى *** وَأَذْلَلْتُ دَمعًا مِن خَلائِقِهِ الْكِبْرُ؟! أليس في هذا دليلٌ آخَرُ على أنَّ كل الأغراض مسموح بها، وكل الكلام مباح حلال، إلا كلام العاشقينَ يلزمه ستر الليل وكفكفةُ الدموع لئلا يراها شامت؟! أتى الحربيُّ وهو يحمل بذور حُبٍّ تبحث عن تربة صالحة، وبيده الأخرى دفقات شوقٍ تُغرق الأرض تحت جنود الكراهية، يضع البسمة سوسنًا فتطرح شوقًا ولهفة، وَوَصَفَ محبوبته فكانت معادلًا لكل شيء؛ فتارةً هي التي يغني لها وترقصُ، سالبةً عَقْله وقلبه معًا، يقول: ويبسطُ كَفَّيْهِ لا طالبًا منها سوى ابتسامة طيبة، وأن تعطيَه قدر ما أعطاها. إنه ليس الذكر المسيطِر في الحب، ولا هو الرجل الشرقي الذي يريد الأنثى مرغوبةً لا راغبة. إنه يبتغي العدالة التي هي غاية الإنسان، والمحبة التي يتساوى جناحاها.. يقول: ونتابع مشهد المحبوبة وهي توليه ظهرها، فيرجوها أن تبقى لئلا يخوض الظلام وحده: «لا تُسافِرْ لكنه لا يعود إلى شاطئه ليشاهد وجهها الذي في ذاكرته منعكسًا على صفحة المياه، ولا يتخلى عن حبه راضيًا بالهمّ والحسرة، ولا يبحث عن سواها، فبعد أن وجدها لن يضيِّعَها، يقول: قَادِمٌ كُلِّي إِلَيْكِ.. آهِ يَا نَوَّارَةَ الْقَلْبِ.. تَعالَيْ.. فَجِّري صَمْتِي الدفين! (صمتي)؟! أي صمت يقصده الحربي؟ وما علاقة مَقْدَمِها إليه بتفجيره؟! إلا إذا كانت هي مُلهِمَتَه، بل في لحظة فارقة تتداخل القصيدة المكتوبة مع المرأة المحبوبة وكأنه من وراء الستر يقول: ما الفرق؟! كلاهما أساي ورغبتي.. يُنشِدُ الحربيُّ: بل يختار الشاعر أن يتضاءل أمام جلالها، حتى يصير هو الشكل وهي المضمون، هو القلب وهي النبضات، هو الصورة وهي الإبداع، وهو شكل القصيدة وهي معانيها ودلالاتها المصبوبة صبًّا.. يقول: أَنَا قَلْبٌ مُتَيَّمْ وأَمَانٍ نَابضاتٌ وَمُهْجَةٌ تَتَجَدَّدْ أَنْتِ فيها مَهابةْ وَجُفُونٌ وَجَمَالٌ وَلَوْعَةٌ تَتَنَهَّدْ». صَارَتْ هيَ إذًا القصيدةُ، ولن تُفلِحَ طاقة ما أو تجبره قُوَّة على أن يردَّها إلى ظلال ما قبل الكتابة، وأن تنحِّيَها عن تخومِهِ الإبداعية. لكن ابْنَةَ شِعْرِهِ لا تكتفي بالقصيدة. إنها تتحرّك تتشكَّلُ هُلامًا يغطي الأرض حوله، وتتعاظم على امتداد الأفق لتصبح هي هي وطنه، وطنٌ مِثْل وَطَنِهِ هذا الذي ينسلك في جباله وينغرس في صحرائه: «عَيْنَاكِ لِي وَطَنٌ.. وَلِلصَّحْرَاءِ فِي الْأَحْدَاقِ مَنْفى!! عَيْنَاكِ لِي بَحْرٌ!!» هكذا تتداخل مفاهيم الحب جميعها؛ فالقصيدة، والوطن، والمحبوبة تتشابك وتختلط، تتراقص وتندمج، تتعاضد وتتماسك وتشكل بنيانًا قويًّا قوامه المحبة الحقيقية اللامشروطة.. «هُوَ الْحُبُّ فَافْتَحْ لَهُ فِي الْحَيَاةِ كِتَابَ الْخُلُودِ.. وَسَطِّرْهُ وَشْيًا بِمَاءٍ مِنَ الْوَقْتِ وَالْعُمْرِ وَالْأُمْسِياتِ عَلَى صَفْحَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمُمَدَّدِ فِي دَاخِلِ الرُّوحِ وَالْأُمْنِيَاتِ» هكذا اعتدل الميزان، واستقامَتْ بَيْضَةُ القَبَّانِ بين متوسطَيْنِ، وانضبطَتْ المعادلةُ، فحجم عناصرِها المتفرقةِ هو حَجْمُ مُرَكَّبِ الحب الناتج منها. ألا تستَحِقُّ المحبة هذه أن يعطيها رحلة عمره، بلى، يقول: بالحب صنع الحربي عالمًا حقيقيًّا، وعبّد به طريق الإنسانية، وأبقاه في نهاية الدرب مكافأة الوصول..! ** **