حين نقارن العرب بالغرب نجد أن الغرب ليسوا أمة فصاحة وبلاغة مثلنا، ومع ذلك سبقونا إلى المنجز الأهم (الفعل)، ونحن لا نزال نراوح عند منجزنا الصَّوتي؛ ولذا نشفق على الأجيال حين تقضي أوقاتها وتنفق أموالها في تعلم فنون الكلام والإلقاء لتملأ العيون وتنال المنزلة. هذا الكلام يختصر كتاب (جدليات فكرية في المشهد الثقافي العربي) للباحث محسن السهيمي الذي رأى في النظام الثقافي العربي خللاً مردَّه الثقافة الحاضرة تنظيراً، الغائبة تطبيقاً، وهذا يؤكد ما جاء به عبدالله القصيمي في كتابه: (العرب ظاهرة صوتية)؛ حيث فرق فيه بين الكلام والصوت بقوله: «الكلام تخطيط أو تعبير عن تخطيط، أو عن خطَّة أو فكر أو تفكير، أمّا الصَّوت أو التَّصويت فإنَّه لا يصعد إلى هذا الطور؛ ليؤكد بذلك أثر القراءة في تنامي العلم والثقافة، وفي تطور المجتمعات، شرط ألاّ يكون الكلام مُقَدَّمَاً على الفعل والتطبيق والممارسة. وليس عبثاً أن كَتَبَ الفراعنة على جدار أوّل مكتبة أنشأوها: «هذا غذاء النفوس وطِبُّ العقول»، مؤكدين أهمية القراءة في حاضر المجتمع ومستقبله؛ فهي رهان ناجح لاحتلال مَوقِعٍ مشرِّف بين الأُمم. تكمن مشكلات المجتمعات العربية برمّتها في ثقافاتها وكيفية ترجمة هذه الثقافات. هذا ما يؤكده الكاتب محمد السهيمي الذي تلخص محاوره ثلاثية (الثقافة والفكر والمعرفة)، وما يندرج تحتها من مفاهيم تنتمي إلى حقل دلالي واحد أهمها: الثقافة مفهوم وممارسة، الثقافة تراث وحضارة، الثقافة خيال وواقع. ولأنّ (الثقافة ضرب من العلم، والعلم لا يأتي بل يُؤتى إليه)، تساءل السُّهيمي عن كيفية بناء مجتمع القراءة والمَعرفة، وتحديداً كيف يُمكن إقامة ثقافة القراءة، مؤكداً أنّ الرّهان الأساس الذي يواجهنا هو تحويل القراءة إلى سلوك ثقافي، وعادة اجتماعيّة وقيمة من القيَم؛ لأن مجتمع القراءة والمَعرفة رهان اليوم والغد. يؤكد الكاتب أهمية القراءة بوصفها مطلباً رئيساً لتقدم المجتمعات وتحضُّرها. فيطلعنا على المشهد الثقافي العربي والإشكاليات الثقافية، والفكرية والفلسفية والجيوثقافية والكونية باحثاً عن سبل استنهاض الحراك الفكري، إسهاماً في خلخلة بعض المفاهيم القارَّة في الذهنية العربية فيرى أن من المسلَّم به كون الكتاب جسر عبور إلى ميادين المعرفة والثقافة. تقصر المجتمعات العربية عن الاهتمام بالقراءة -كما يرى الكاتب- بالمقارنة مع الغربية التي تشجع أفرادها على القراءة، بدءاً من المجلة ومروراً باقتناء الكتاب وامتلاكه؛ إذ تبدو صورة القراءة في العالم العربي قاتمة رغم بشائر الأمل التي انبثقت ممّن يعمل بجهد ونشاط، على نشر ثقافة القراءة بين أفراد المجتمع. فكلمّا تضاءلت القراءة في حياة الفرد أصبح مستواه في إدراك وتحليل وفهم الأمور ضعيفاً جداً. لهذا يجب أن يتم الاهتمام بتلك المبادرات التي نشهدها في المنتديات الثقافية المنتشرة من حولنا، في ظل دعم مبرمج وهادف، دعم بذور التجديد من خلال التركيز على تعليم مهارات القراءة الحديثة وأساليبها، والسعي نحو نشر الكتب وإعطاء المثقف العربي مساحة أكبر في المجتمع. تكتسب موضوعات الكتاب جديتها في أهدافها ومراميها، فقد اجتهد المؤلف في تفكيك مسارها الفكري وتطويعه في مواكبة المشهد الثقافي العربي فيقول بهذا الصدد: إننا نعيش أزمة ثقافة ومثقفين، ونراه يتساءل عن المثقف، أين يقف؟ ويعرِّف به، قائلاً؛ المثقف: من سمت ذائقته إلى تخوم الإبداع الأدبي، وارتقت لغته إلى سماء الفصحى، وطوَّف في فضاءات الثقافة والفكر والكلمة. وحاز معرفة كبيرة من مختلف الفنون. ** **