ولكنه ضحك كالبكاء، هكذا يختصر المتنبي وصف الأدب الساخر، الذي عرفته الأمم قديماً بدءاً من معرفتها بالمعاناة، فالأدب الساخر هو بوح الشعوب المنكوبة، وأكثر الشعوب معاناة أكثرها سخرية في محاولة دائمة من الإنسان لتجاهل واقعه المرير. وتضرب جذور الأدب الساخر أعماقها في الكوميديا اليونانية، وفي سخريات سقراط، وفي ملهاة أرستوفان المسرحية الكوميدية (الضفادع) في القرن الخامس قبل الميلاد مروراً بأدباء العالم قاطبة ًووصولاً إلى الأدب العربي وكتابات الجاحظ وخصوصاً كتابه الأشهر (البخلاء) ومن أتى بعده كأبي حيان التوحيدي وابن قتيبة، وأيضاً مقامات بديع الزمان الهمذاني الساخرة في القرن الرابع الهجري وأدب ابن المقفع، ومروراً بقصائد الحطيئة وأبي العتاهية وأبي العلاء المعري وشعراء الهجاء والنقائض على امتداد الأدب العربي. وفي أزمة فيروس كورونا الحالية أطل هذا الأدب برأسه من جديد وبوجه جديد عبر الطرائف والنكات الساخرة التي اتخذت من وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية مسرحاً لها، ونعود بالذاكرة للربيع العربي وكيف تحولت حلبة السياسة إلى حلبات للسخرية والنقد أكثر تأثيراً وأثراً، وتعد مقابلة الواقع الاجتماعي والسياسي بالسخرية انعكاساً لتحدي الإنسان لهذا الواقع الذي لا يروق له. وفي أزمة الخليج الثانية تناقلت المجالس وقتذاك مجلدات من السخرية والمواقف الهزلية وكأن الشعوب تعزي نفسها أمام كوارثها تماماً كطفل امتلأ قلبه رعباً فلم يجد حيلةً إلا الضحك ودموعه تغري مشهده التناقض بالضحك . ويتخذ الأدب الساخر أشكالاً متنوعة تتراوح ما بين النكات والطرائف (وهي الأكثر)، وما بين الشعر والمقالة والكاريكاتير والمسرحية والفن السابع (السينما)، وكذلك الكتب وغيرها من الفنون التي تطاوع بني البشر لتكون متنفساً لهم. رغم صعوبته وجديته، فالبعض يظن أن الأدب الساخر هو لإضحاك الناس ليس إلا ولكنه ليس كذلك فحسب، فهو يوظف الضحك لنقد الواقع من أجل تشخيصه والبحث عن علاج ناجع له، متخذاً من الحريات مسرحاً ممتداً له وملهماً لمادته التي لا تستعصي على الأدباء الذين برزوا في هذا اللون الأدبي الراقي أمثال الأديب الروسي (تشيخوف) الذي اتخذ من القصص القصيرة والمسرحيات مادة دسمة له تناول فيها الأوضاع الاجتماعية بالنقد والسخرية طوال تسعينيات القران الماضي، ويأتي الأديب الأمريكي أمبروز بيرس في القرن التاسع عشر كواحد من أشهر الأدباء الساخرين عبر مقالاته التي تنشرها الصحف الأمريكية، وعبر كتاباته للشعر والقصة القصيرة يقول في ثنايا سخرياته يقول: «الإعجاب هو اعترافنا المؤدب بأن الآخرين يشبهوننا»، واشتهر بيرس بكتابه الساخر قاموس الشيطان والذي كرسه للسخرية من القاموس الإنجليزي بإسقاطات طالت المجتمع الأمريكي وحياته الاجتماعية، ويعد الكاتب الأيرلندي (جورج برنارد شو) شيخ الساخرين بأدبه الذي انتشر في العالم متجاوزاً اللغة، حيث ألف أكثر من ستين مسرحية من نوع الكوميديا السوداء التي تسخر من كل شيء، ويحتل الكاتب الألماني لوريو مركزاً مهماً في النقد الساخر للمجتمع الألماني بصفاته التي يغلب عليها طابع الجدية والجمود، ولا ننسى الكاتب الأمريكي الشهير (مارك توين) الذي وصفه البعض بأنه أعظم الساخرين الأمريكيين متخذًا من الخيال العلمي مادة غزيرة له. وفي العصر الحديث عادت الكتابات الساخرة والكوميديا السوداء (كما يقال) للظهور وبقوة في العالم العربي وبرزت أسماء سطرت حروفها على رقصات المعاناة وعلى ضحكات الجماهير التي تدير ظهرها لواقعها التعيس، ومن هؤلاء الأدباء - على سبيل المثال لا الحصر - طه حسين (عميد الأدب العربي) الذي اشتهر بنقده الساخر واللاذع عبر مقالاته وكتبه الكثيرة، وأحمد أمين، ومحمد الماغوط، وجلال عامر الذي رسم (البسمة الباكية) على الوجوه كما يقال عنه، ومحمود السعدني (الولد الشقي) وهو من رواد الكتابة الساخرة في العالم العربي، والشاعر أحمد مطر، وأحمد فؤاد نجم، والأديب الفلسطيني إميل حبيبي الذي يرى أن السخرية سلاح يهز عرش الظالمين، وأحمد رجب وله مقالات يومية بعنوان (نص كلمة)، وأحمد بهجت، والكاتب السوداني جعفر عباس الذي غلب على كتاباته الطابع الساخر، ويعد الكاتب العربي الأول الذي ضمته النسخة الإنجليزية من «ويكيبيديا» إلى قائمة الكتاب الساخرين في العالم، وتتخذ مقالاته الساخرة عناوين متعددة منها زاوية معكوسة، زاوية حادة، زاوية منفرجة، غامقة. وهناك أيضاً هاشم السبع، وفخري قعوار، ولطفي ملحس، ومحمد طملية الذي أسس للكتابة الساخرة منذ العام 1987. لقد انحسرت الكتابات الساخرة عربياً بشكل ملحوظ لأسباب ليس المجال لشرحها، وفي الأدب السعودي الحديث برزت الأسماء الأدبية التي تعاطت مع السخرية والنقد في مصنفاتها الأدبية أمثال الشاعر السعودي محمد حسن عواد، والشاعر حمزة شحاته، وحسين سرحان وحسن صيرفي، ويعد أحمد قنديل علامة فارقة في تطور الأسلوب الساخر في الشعر السعودي. فهو يعد بحق رائد الشعر الساخر في المملكة للتنوع والكثرة في إنتاجه الساخر بشكل لم يقاربه أي شاعر آخر حتى يومنا هذا، كما جاء الأديب الدكتور غازي القصيبي بمؤلفات وقصائد شعرية ومقالات صحفية ساخرة، وغيرهم الكثير كناصر الزهراني وعبدالمحسن حليت. وعودة إلى أزمة كورونا والتي فجرت كوامن السخرية في الشعوب العربية وكذلك في المجتمع السعودي أيضاً، ولكن ليس على هيئة أدب فصيح كما هو الإرث العالمي والعربي الرصين، ولكن عبر وسائط السوشيال ميديا والنكت والطرائف والحكايات، ولعل هذا هو التحول المتوقع لأدب السخرية في ظل عصر ووسائل التواصل الاجتماعي التي اتخذ من الأزمات والكوارث مادة دسمة لها، وفي كل الأحوال يظل الأدب الساخر قديمًا وحديثًا تعبيرًا عن مكنون الضمير الإنساني حتى لو أتى بوجه جديد لأنه باختصار ضحك كالبكاء. ** **