أعلنت المملكة تعليق الدخول إلى المملكة لأداء مناسك العمرة أو زيارة مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- جراء تفشي مرض الكورونا في كثير من الدول وبتأمل هذا الإجراء من منظور شرعي نجد أن له أدلة تسنده، وواقع تؤيّده، منها ما حصل في زمنه -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما حصل بعد وفاته في زمن أصحابه الكرام -رضي الله عنه- منها: أولاً: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه (2231) عن الشريد -رضي الله عنه- قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ)، فهذه الحادثة هي واقعة من أجل الوقائع وهي قدوم هذا الصحابي -رضي الله عنه- لمبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به، ولمّا كان مصاباً بالجذام وهو من الأمراض الخطيرة، أُمر بالرجوع وألا يدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- حماية للعامة من آثار ذلك اللقاء. ثانياً: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) رواه البخاري (5707) فالفرار من الأسد يكون بأشد ما أُوتي الإنسان من سرعة وبلا تأخر أو تواني؛ لخطورة التأخر في ذلك على مَن لم يفر. ثالثا: عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان متغيباً في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. رواه البخاري (5729). فأمير المؤمنين وهو الخليفة وولي أمر المسلمين اجتهد واختار منع الصحابة من الدخول لبلاد الشام حال فشو الطاعون فيها مع اختلاف الصحابة في ذلك بين يديه إلا أنه رجع بهم -رضي الله عنهم أجمعين- ثم أخبره عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فحمد الله على إصابة الحق والصواب. رابعاً: في عام طاعون عمواس لما استخلف على الناس عمرو بن العاص، قام خطيباً في الناس فقال: «أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبَّلوا منه في الجبال» قال الراوي: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب مِن رأي عمرو فوالله ما كرهه. رواه أحمد (1697) خامساً: أن هذا من السياسة الشرعية المنوطة بولي الأمر؛ فأفعاله منوطة بالمصلحة للرعية؛ فيفعل ما يراه محققاً لحفظ حياتهم وصحتهم سواء ما يتعلَّق بالمعتمرين أو الزوار أو غيرهم وذلك حتى زوال الخطر وانحسار المرض، وهو ما نصَّ عليه في ذلك القرار من كون هذه الإجراءات مؤقتة، وتخضع للتقييم المستمر من قبل الجهات المختصة، فالدولة بهذا القرار بذلت الواجب عليها حماية للمواطنين والمقيمين والمعتمرين والزوار، وهي كما قال أمير المؤمنين عمر: «فرّت مِن قدر الله إلى قدر الله»، ففرت بالناس من قدر التعرّض لسيئ الأسقام إلى قدر السلامة والعافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطّلاً للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً»ا.ه اللّهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام، اللّهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، والحمد لله رب العالمين. ** **