الحُزْنُ المتكرِّرُ حُصُوله حُزنان، حزنٌ معرفيٌّ وحزنٌ مادي، أما الثاني فليس له إليَّ طريق ولله الحمد، ولكن بلائي دائماً يكون من الأوَّل، ولقد تجرَّعت مَرارته مِراراً، آخرها كان بسبب مقالة قرأتُها هنا في المجلة الثقافية الذائعة الصيت، فإنَّ تلكم المقالة كانت تنتقد نظرية الخليل بلغة بعيدة عن العمق والسَّبر، ولو أنَّ كاتبها كان مدركاً تمام الإدراك للنظرية الخليلية لما كَتب ما كتب، فقد ذَهَبَتِ المقالة تلك كما ذَهَبَ المحلِّق في بنات طَمَارِ، فاللهم غَبْطاً لا هَبْطاً. قبل عدة سنوات هاتفت المحقق المعروف والأديب السوري الكبير محمد رضوان الداية لأسأله عن بعض الإشكالات العروضية، فقال لي بصوتٍ متهدِّج أرهلته الشيخوخة: «إنَّ علم العروض علمٌ واسعٌ مع صِغره، وسيتَّسع لك مع الزمن». هذه العبارةُ هي من أعظم النصائح العلمية التي تلقيتها في حياتي، فقد أرشدني بنصحه هذا إلى التأني في الطَّلب، والصبرِ عند التحصيل وعدمِ الغرور أثناء حيازة المعلومة، فإنَّ من يرى التفاحة الحمراء لأول مرة لا يعرف طعمها وإنْ كان قد عرف لونها، وربما ظنَّ أنَّ التفاح ليس له إلا لونً واحدً فقط ؛ لأنه لم ير الألوان المختلفة الأخرى كالأصفر والأخضر منها، وهكذا هو العروض وغيره من العلوم الأخرى، تظن أنك قد عرفت كلَّ شيء وأنت لم تعرف إلا شيئاً من أشياء، إنَّ مشكلة الذين يتجرَّؤون على النظرية الخليلية هي أنهم يقرؤونها بشكل سريع ويزعمون أنهم قد أحاطوا بها علماً، والحقيقة خلاف ذلك، فالعروض يجب عليك لكي تفهمه فهماً متقناً أنْ تمارسه باستمرار وأنْ تحاول الإجابة على الإشكالات التي تمرُّ بك من خلال المراجع الأصيلة، وحلُّ بعض تلك الإشكالات غير موجودٍ في المراجع أصلاً، بل هو في صدور رجاله الذين خبروا سِكَكَه وأزقَّته ودهاليزه. لستُ أسيء الظن بكاتب تلك المقالة، فهو من خيرة الكتاب، وأيضاً هو من المثقفين الذين أحرص على القراءة لهم والاستفادة من علمهم، لكنه هنا قد زلَّت به نعله، فجاءت هذه المقالة محشوة بالمغالطات، وليس لديَّ الوقتُ لكشفِ ذلك كلِّه وإنما سأكتفي بالردِّ على اثنين منها. أولها: هي زعمه بأنَّ الخليل وَضَعَ (مصطلحات/حدوداً) متشابهةً في دَورها ومختلفةً في موقعها وأنَّه كان الأولى بالخليل أنْ يضع لها مصطلحاً واحداً ومثَّل على ذلك بالخبن والطي، وهما يتساويان بحذف الساكن. وهذا الرأي فيه من الاستعجال ما فيه، ولعلِّي أستحضر هنا -باختصار شديد- الكلِّيَّات الخمس في المنطق، لكي نتمكن من التفريق بين الأسماء بإدراك الماهية، فالكلياتُ الخمس هي الجنس والنوع والفصل والعَرَض العام والعَرَض الخاص: فلو قلنا: (الخبنُ زحافٌ مفردٌ) جواباً لقولنا: ما الخبنُ؟ فإنَّ (الزحاف) يعد حينئذٍ (جنساً)، وأمَّا الخبن فيعد (نوعاً)، وأمَّا قولنا: مفردٌ، فإنَّ هذا يعد (فصلاً) تمييزاً له عن الزحافات المزدوجة. إنَّ القَصْد من إفراد الخبن باسمٍ هو تمييزه عن الزحافات المفردة الأخرى المشابِهَةِ، واحترازٌ له من اللبس، ومن هنا تأتي أهمية وضع المصطلحات كما لا يخفى. ثم إنَّ هذه المصطلحات والمسميات كالخبن والطي مرتبطةٌ ومتعلِّقة بمصطلحات ومسميات أخرى، فمصطلح (المراقبة) مثلاً هو أن يتجاوَرَ سببان خفيفان في تفعيلةٍ واحدةٍ أحدهما يقع فيه الزِّحاف والآخر يمتنع عليه فلا يزاحفان معاً ولا يثبتان معاً، فإنه في البحر المقتضب مثلاً يكون في (مفعولات) سببان خفيفان متجاوران يجوز فيهما الطي والخبن، لكنَّ جواز الزحاف لا يسوغ لهما معاً بل لأحدهما، ولا يثبتان معاً بل يثبت أحدُهما، وبمعنى آخر: يجب في أحدهما الزحاف فإذا وقعَ فإنَّ الآخر يسلمُ وجوباً فإمَّا أنْ تُحذف (فاء) (مفعولات) بالخبن وتسلَمَ (الواو) من الطَّي، أو العكس. ومن هنا ندرك ضرورة التفريق بالتسمية بين هذين المصطلحين الطي والخبن ؛ لأن هناك مصطلحاً آخر مشغولاً بهما ويعمل عليهما وهو المراقبة. أضف إلى ذلك أنَّ التفريق بين هذه المصطلحات هامٌّ ونافعٌ للطالب، فالزحافات تدخل الحشوَ فلا يلتزمها الشاعر، وقد تدخل أيضاً العروضَ والضربَ فيلتزمها الشاعر فتجري مجرى العلَّة، فلِكَي يعرف الطالب نوع العروض أو الضرب في البيت أو القصيدة فعليه أنْ يمتلك التصور الذهني التام لها، وهذا لا يكون إلا بضبط المصطلحات. ثم إنَّ الكاتب قد أهمل مصطلحاً آخر يجمع بين الخبن والطي وهو (الخبل) وهو زحافٌ مزدوج، والخبل هذا يقع في (مستفعلن) فيصير (متعلن) تتوالى فيه أربع متحركات، وعليه فإنَّ تمييز كل واحد منهما -أعني الخبن والطيَّ- عن الآخر كان حتمياً وضرورياً لأنَّ هناك زحافاً يجمع بينهما. ثم إني أريد أن أذكِّر بأنَّ الكاتب قد ظن بأنَّ الدوائر العروضية هي أصل نظرية الخليل، وإنْ لم يصرِّح بذلك، فهو -أي الكاتب- يَعتبر الخروجَ عن نظام الدائرة خروجاً عن النظرية الخليلية، والأمر ليس كما يظن، فالدوائر الخليلية هي ابتكار داخل ابتكار، والظاهر أنَّ الخليل وَضَع الدوائر بعد أنْ انتهى من النظرية، فأراد أن يقسِّم البحور إلى أسر وقبائل وأنْ يَضُمَّ كلَّ بحرٍ إلى نظيره، فجاءت الدوائر بهذا الشكل المدهش، وهذا لا يمكن أن يكون بمحض الاجتهاد فقط بل لا بدَّ أن يرافقه فتحٌ إلهيٌّ، إذْ لا يمكن أن يهتدي الإنسان إلى مثل هذا الإعجاز ما لم تكن هناك رعاية إلهية، ولذلك فإني أميلُ إلى صحة الرواية التي حكاها أبو الطيب اللغوي المتوفى سنة (351ه) في كتابه مراتب النحويين، وهي أنَّ الخليل تعلَّق بأستار الكعبة وقال: اللهم ارزقني علماً لم يسبقني إليه الأولون. ثانيها -أي ثاني تلك المغالطات- هو قول الكاتب بأنَّ الخليل لم يعرِّف الانكسار والحق أن الخليل لم يحتج إلى تعريفِ الضدِّ بل هو خارج نظريته أصلاً ولا تترتَّب عليه أحكام، ثم إنَّ الانكسار نقيض السلامة، والسلامة قد عرَّفها الخليل، والغزالي يقول في كتابه معيار العلم: «مهما دَلَلْنا على أحد النقيضين فقد دَلَلْنا على الآخر، ومهما قلنا أحدهما فكأنا قد قلنا الآخر». وأود هنا -بالمناسبة- أن أشير إلى مصطلحٍ يتأرجح بين الانكسار والسلامة حيث لم أر أحداً من المعاصرين تطرَّق إليه، بل قد أهمله كثير من الأقدمين مع أنه مصطلح خليلي وقد أهمله إميل بديع يعقوب في المعجم المفصل في علم العروض والقافية، وأهمله أيضاً محمد توفيق أبو علي في المعجم الوافي في علم العروض والقوافي، هذا المصطلح هو (الرَّمْلِ) بسكون الميم وهو قد وُضِع لكلِّ بيت مختلٍّ من الناحية الإيقاعية ومستقيمٍ من الناحية العروضية، إنَّ البيت الذي أثقلته الزحافات يشبه تماماً الشخص الذي يمشي أو يجري في الرَّمْلِ حيث يبدو ثقيلاً وقد تغوصُ قدماه فيختلُّ توازنه، ومن هنا كانت التسمية، فكذلك البيت إذا كثرت فيه الزحافات لا سيما المستقبحة منها فإنه يصبح ثقيلاً. لقد ذكر (الرمْلَ) أبو الحسن العروضي في كتابه، بشكلٍ مقتضبٍ من دون شرحٍ فقد يُظنُّ لأوَّل وهلةٍ أنه إشارة إلى (بحر الرمَل) بتحريك الميم، والصواب أنه لا علاقة له ببحر الرمَل لا من قريب ولا من بعيد وإنما هو من المؤتلف خَطّاً والمختلف نُطقاً، وقد رأيت أنَّ أحسن شارحٍ له هو نجم الدين سعيد بن محمد السعدي في كتابه المخطوط (شرح عروض السَّاوي) حيث نقَل كلاماً لركن الدين الحديثي وهو قوله: «هو [أي الرّمْل] كلُّ شعرٍ ليس بحسنٍ تأليفه ولا بمجوَّزٍ لفظه، بل يُظنُّ أنه انكسار، كقوله: وَزَعَمُوا أنَّهُمْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ فَأَخَذُوا مَالَهُ وضَرَبُوا عُنُقَهْ مأخوذٌ من الرمْل لانهياره وقلَّة ثبوته». وقال بعضهم: إنه مَن يخلِطُ بحراً ببحر وعروضاً بعروض وضرباً بضرب ولعلَّ مِن أشهر من وقع في هذا التخليط : عَبِيْد بن الأبرص في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنوبُ وفيه يقول المعري: وقد يُخطِئ الرَّأيَ امرؤٌ وهو حازمٌ كَما اختلَّ في نظمِ القريضِ عَبِيْدُ ** **