هكذا تكون الحياة أحياناً كحقيقة! وليست على المجاز كأحجية تلتقط أنفاسك بين فينة وأخرى حين لا تستطيع أن تجد حلاً مرضياً يقنع الآخرين... ازدواجية صريحة وحقيقة يراها فولتير قديماً حين قال للملك فريدريك الثاني ملك بروسيا وصديقه المقرّب «لم أستطع العيش بدونك ولا معك» ولكنه كان يرمي لشيء معين كان فريدريك يعلمه فتقطيع النفس والعقل إلى جزأين ضروري لكي تبقى حلقة التوازن تطفو فوق سطح الحياة دون أن تغرق في وحل الإشكاليات والصراعات وبعيداً عن جنون الريبة، إن التناقض سمة بشرية كان على الإنسان أن يتعامل بها بصدق وباحترافية الفيلسوف لا بالفوضى المبعثرة للعقل المهترئ فأنت تحتاج أن تكون متناقضاً ليس كل الوقت وإنما بعض الوقت وليس كل المواقف وإنما في بعضها، وليس مع كل الأشخاص وإنما مع بعضهم، (رضيت فقلت بأحسن ما علمت وسخطت فقلت بأسوأ ما علمت فلم أكذب في الأولى ولقد صدقت في الثانية) هكذا عبّر عمرو بن الأهتم حين أراد أن يمدح ويذم في نفس الوقت دون أن يكون به مس، فكان رد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من البيان لسحرا)، تناقض حقيقي ولكن صحيح ولا بد منه فهذه احترافية البليغ المفوّه لذلك كان التسليم من الرسول (ص) كالموافقة على هذه الاحترافية بحيث لا تكون التناقضات أقوى من الحبل المعلق عليه فيخر كل شيء على الأرض دون وعي بمسئولية، وبما أننا نعيش في ذروة التناقضات فقد لا تحتملها أحياناً قلوب وعقول أصحاب الدرجة الثانية فما أسرع من أن يسقط جدار الأخلاق الذي شيّده منذ ولادته دون أسف عليه وهذه كارثة تعود بالوبال على المجتمع فإن أمثاله قد يتوالدون فتخرج لنا أجيال يصبح الكذب والخداع عندهم صفة أخلاقية مسموحاً بها ونضحى في حيص بيص وشَرك لا ينتهي من الجدل البيزنطي اللعين والذي قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، فهذا وغيره من التناقضات المحرّمة كما نراها الآن في الإعلام المرئي العالمي والعربي حتى لا تعلم من الذي يصدق ومن يكذب ومن الذي انتصر ومن كان مهزوماً فإنهم بحنكة المداهن يقلبون الحقائق رأساً على عقب والأمر كله متعلق بجذب رقاب الشعوب للتأييد بسذاجة كسياسة متناقضة مباحة لديهم تصل بالمرء درجة الاشمئزاز دون مبالاة لعرف أو مبدأ أو ضمير حتى وإن كان حراماً.. يقال إن محمود درويش الشاعر الفلسطيني أحب فتاة إسرائيلية واعتقد كذلك، حتى قال فيها شعراً غزلياً لم يقل مثله في فتاة أخرى بينما كان يهجو قومها المحتلين هجاءً قوياً: «إنّي أُحبُّكِ رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات لكنني أخشى إذا بعت الجميع تبيعيني وأعودُ بالخيبات وهذا تناقض بين الحب والكره في الفعل والقول وإن كان لا يستطيع أن يملك قلبه الذي أهداه لتلك الفتاة رغم أنف قبيلته التي لا توافقه على صنيعه... وقد باعته كما يقال وعاد منها بالخيبات كما يقول: «شعرت أن وطني أُحتل مرة أخرى» ومع ذلك لا يخفي كرهه للإسرائيليين: وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ لا تَنْسَ قوتَ الحمام وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ لا تنس مَنْ يطلبون السلام وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ مَنْ يرضَعُون الغمامٍ وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ لا تنس شعب الخيامْ وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام ** **