ربما لاحظ البعض بأنني أكثرت الكتابة عن مشكلة تدني إنتاجية العاملين في القطاع العام.. والذي دعاني إلى ذلك هو أنه على الرغم من تحديث آلية العمل في القطاع العام إلا أنه يبدو أن القوى البشرية فيه لم تواكب ما يجري من تحديث.. ولعل ذلك يعود لسببين: إما لمحدودية المهنية بسبب تواضع برامج التدريب أو لأن فئة من العاملين لم تستوعب بعد ما يجري من تحديث في آلية العمل. كثير من البيروقراطيين يعاني من صعوبة في معرفة معنى وحقيقة الإنجاز ومستوى الإنتاجية. البعض يرى أن مجرد إحالة المعاملة إلى قسم أو جهة أخرى داخل أو خارج منظمته يعد بحد ذاته إنجازاً، وهو لا يعدو تخلصاً من المسؤولية.. وآخرون يعتقدون أن مجرد المجيء إلى العمل صباحاً وتناول قدر كبير من القهوة والشاي والتسكع في أروقة المبنى إنجازاً، وذاك يرى أن لغة التخاطب الجيدة مع الرئيس أو حتى المراجع تكفي وترضي معايير الإنجاز، والقائمة تطول.... لقد كان لغياب أو تواضع مؤشرات الأداء الرئيسة KPIs دور كبير في تراجع الإنتاجية وتدني مستوى الإنجاز. وأدى ذلك إلى الاعتماد على اجتهادات الرئيس المباشر أو مدير الموارد البشرية في تقييم أداء العاملين.. وهي بالطبع بعيدة كل البعد عن المنهج العلمي في تقييم أداء العاملين. لن أطيل على القارئ الكريم وسأكتفي بسرد دراما حركة العمل لمعالجة موضوع ما في إحدى الجهات الحكومية لمعاملة توضح تدني مستوى الإنتاجية في تلك الجهة وإبداعات بعض البيروقراطيين فيها وقدرتهم على التخلص من المسؤولية بأسهل طريقة وأقل جهد. وهي إجراءات حقيقية لقضية صادر فيها حكم قضائي مصدق من هيئة التمييز واجب على تلك الجهة تنفيذه فوراً. ولن أذكر اسم الجهة الحكومية ولا الموظفين ولا صاحب الشأن، لأن هدفي هنا هو تطوير الأداء وليس محاسبة المقصرين. فيما يلي حركة المعاملة أو قل خط الإنتاج وفقاً لرسائل الجهة: 1 - عزيزي المراجع تم استلام معاملتك والمقيدة ب... برقم (........) وتاريخ 2-6-1441ه من قبل مركز الاتصالات الإدارية. 2 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 3-6-1441ه إلى وكالة المشاريع. 3 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 4-6-1441ه إلى الشئون القانونية. 4 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 5-6-1441ه إلى الإدارة العامة للدراسات والتصاميم. 5 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 8-6-1441ه إلى الإدارة العامة للدراسات والتصاميم. 6 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 9-6-1441ه إلى الإدارة العامة للمساحة والملكيات. 7 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 15-6-1441ه إلى الإدارة العامة للدراسات والتصاميم. 8 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 16-6-1441ه إلى الإدارة العامة للدراسات والتصاميم. 9- عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 17-6-1441ه إلى الإدارة العامة للمساحة والملكيات. 10 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 17-6-1441ه إلى الإدارة العامة للدراسات والتصاميم. 11 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 17-6-1441ه إلى إدارة تصميم تصريف السيول. 12 - عزيزي المراجع تم إصدار معاملتك بالرقم الموحد (........) وتاريخ 29-6-1441ه إلى الشئون القانونية. إنجاز مبهر!! أليس كذلك؟.. ربما يراه أولئك البيروقراطيون إنجازاً بالفعل!! يبدو أن إحالة المعاملة من إدارة إلى أخرى وسيلة بيروقراطية سهلة للتخلص من المسؤولية.. طبعاً من أمن العقوبة.... إلخ.. وهذا أسلوب يتكرر في كثير من الأجهزة البيروقراطية. ولذا فربما تتفقون معي بأن هذه الأجهزة بحاجة إلى إعادة هيكلة كاملة ليس لآليتها الإدارية فقط ولكن لثقافة العاملين فيها.. وبمعنى آخر لسنا بحاجة إلى إعادة هندسة العمليات الإدارية فقط ولكننا بحاجة أيضاً إلى هندرة عقليات بعض العاملين ومفهوم الأداء لديهم. ولذا يتوقع من وزارة الخدمة (والتي أرى تغيير مسماها إلى وزارة التطوير والتنمية الإدارية وتغيير أهدافها تبعاً لذلك) اتخاذ ما يلي: 1- العمل على إعادة هيكلة مفاهيم العمل وتعزيز قدرات العاملين في أجهزة القطاع العام. وتبني ما يعرف بقانون أخلاقيات العمل (Code of ethics) وقانون أخلاقيات ممارسة العاملين (Code of conduct). 2- تبني معايير أداء مهنية KPIs فعلية لا شكلية والتي من شأنها تغيير أسلوب أداء العمل وتحسين إنتاجية العاملين. 3- تبني مشروع إعادة هندسة العمليات الإدارية (BPR) في أجهزة القطاع العام بشكل مهني بعيداً عن التنظير والشكليات التي لا طائل من ورائها. اللهم اهدنا سواء السبيل،،،