حزين هذا الصباح، وبه بعض بهجة خجلى، مترددة، تبحث عن فكرة نشوى. برودة الصباح اللذيذة، تغري بنعاس أطول، وشعلة شرايين القلب تلهب الألحفة، فما أطال النوم عمرا، ولا قصر في الساعات طول التقلب والملل. الأسطح الضيقة اللصيقة، لا تسمح لطيور الفكر المغردة بالتحليق بعيدا، وتظل، تحرم النفس الشجية، من مجرد الحلم برفرفة جناح مبتل، فوق وسادة وثيرة. صباح اليوم محطة، جديدة، بعد آلاف المحطات عبرتها، وفي كل محطة، لي براعم تحفيز، وشوكات خوف، وسياج تردد، وكيس طمع. ملامح الوجوه في كل محطة تختلف، تحتاج لرسام دقيق النقل، متعمق المشاعر، فبعضها محبب يكاد أن يحتضن الوجوه من حوله، والبعض جامد، عثت عليه الحسرات، والبعض مخيف بنظراته الشكاكة، والبعض يبكينا حزنا، والقطارات وعرباتها تتبدل، والحنين حقائب مفرحات وركام خيبات نحاول أن نحملها معنا، وهي تُعجز طموحنا، وترمي ببعض ما فيها من أفواهها، على أرصفة الوداع، لنعود نلملمها، وقد ندوس على بعضها، وعلى حرقة قطرات أدمعنا، وعلى بقايا عزمنا على الرحيل، ولو عكس تيار نهر جامح يتحدر من نبع الهم المعرفي فوق صخور الواقع. كنا في ريعان جنوننا نتحفز للرحيل حفاة عراة، ونتوق لعبور المحطات، والتطاول في البنيان، ولكنا بمرور الزمن، رضينا بغرفة القبو، وصرنا نخشى أن تنزلق بنا القدم المتورمة، في سلالم محطة غريبة، نجهل أنها تدور تلقائيا من تحتنا، ونحن لم نُحضر معنا عصا نتوكأ عليها، ونهش بها ما يتبادر لأعيننا من خراف جنون وذئاب مخاوف. اليد ترتعش، وقدرتها على الإمساك بحبل اليقين، لم تعد واثقة كما كانت، والتباطؤ يقتصد بشح في معدن خطواتنا المستديرة، لنجده يكنز كثيرا منها في حصالته، فلا يعود يفرج عنها لتلمح الضوء، وتمرح، وتخاطر، وتدهشنا بروعة القفزات. العمر كرة كريستال سحرية، تتدحرج بين شقوق الأيام والسنين، ببريقها، وألوان الطيف المتداخل فيها، وخطوطها المتجمعة، المتناثرة، كثيرة الفقاقيع، وكلما كان طريقها سهلا متوازنا متساويا، كانت رحلتها قصيرة، سريعة التوقف، قليلة التجارب، سهلة الانزواء لا نختبر من خلالها متانة زجاجها، ولا جودة وثبات لمعتها، ولا قدرتها على البقاء متحركة، تشدنا لنجري خلفها، مهما تلوثت الطرق. وحينما يتعرج الطريق، وتكثر فيه العوائق، وتتباين السرعات، يضج العمر بدماء التجدد، ويقترب من حواف الخطر، ويعلو، وينحدر، ويدور، ويجعل الممر حيوات متعددة، كل منها يحكي عن تجارب وجماليات، ويكتنز الذكريات، ويكتب حكايات العمر، ولو بأقلام الرصاص والخوف. الألم الداخلي النابض، هو ما يشعلنا شموعا، وما يجعلنا أقرب، لأرواح وكيانات من نحبهم، ونحتاجهم، وكم يشجعنا تمازجنا على البوح، واللمس، والعتاب، من جوف القلب، بعشم نحمله بين أضلعنا رعشة، ونحن نعلم بأنه إن زاد شرره أحرق وترمد، وإن خبا في عمره القصير، لم تظهر له شعلة، ولم يسمع به من يعبرون الدروب من حولنا وهم تائهون في ذواتهم، منكسي رؤوسهم. حياة الرماد، تعني أنها كانت يوما حياة شباب وحب ونشوة وطموح، وامتلاك وفقد. وحياة اليباس، لا تدل إلا على النقص والحيرة، والحسرة، والخوف، والعجز، والتجمد. يا أصدقائي، وأحبائي، أحرقوني شمعة بين أيديكم الحنونة، ولا تحتفظوا بي زهرة مجففة، في أصيص كريستال باذخ. وذكروني، في محطتي الأخيرة، بأني كنت يوما لكم أجمل عبور من محطات حياتكم، ولا تجعلوني مسمارا في نعش الذكريات. محطتي الأخيرة شائقة، تعطيني الأمل، بعودة، وحكاية، ونشوة، ومشاعر، وليس بما تظنون، من مجرد التشقق، بين أيدي البراويز الأنيقة. رافقوا محطات جنوني، واحملوا في كل محطاتكم قميصا إضافيا، ولابد من جذوة وعي، وشبق تعلم، وشجاعة قفزات، ومدارات حرية، وأطر جماليات، حتى لا تمر عليكم المحطة الأخيرة ثقيلة، حائرة بعربات الندم، والتحسر. أفق خفيفَ الظلِ هذا السَحر، نادى دعِ النوم، وناغ القلم. ** **