يسأله جليسه متهكمًا: هل حققت ما تصبو إليه؟، هل وصلت إلى ما كنت ترومه وتتمناه؟، ثم يعود مستدركًا في محاولة لتلطيف سؤاله فيقول: أنت تملك من الإمكانات والقدرات ما يجعلك في وضع أفضل وأحسن. ران صمت ثقيل على الخضرة والماء وغاب الوجه الحسن الذي اختزلته الصدفة في ذلك الوجه القاحل الكئيب وأسئلته الأكثر كآبة. في الحياة صنوف وضروب شتى من البشر بعضهم تحكمه القيم والأعراف والتقاليد، والبعض الآخر تحكمه المصلحة وزمنها ومكانها، وبين الصنفين يتمايز الناس بين خير وشر بين فضيلة ونقيضها. لعل من أسوأ الناس سيرة ومسيرة، هم أولئك الذين يفرغون أنفسهم لتصيد الآخرين وإعادة قراءتهم ثم اختزالهم في قوالب معدة سلفًا في أذهانهم تتماهى والصورة الشيطانية التي يريدون رسمها للآخرين وإلصاقها بهم. إن كمية الهزائم التي تتغشى المهزومين نفسيّاً لا تعيدهم إلى الوراء فحسب، بل تمرغهم ظهرًا لبطن في وحل الخصومة وبراثن الغل ومآسي الحسد، ليكونوا مسوخًا لأشياء غريبة ومستهجنة. دع الخلق للخالق.. قاعدة عقلية حكيمة يتبناها الحكماء منذ القدم، هي دستورهم وخارطة طريقهم عند المرور على الناس وزلاتهم ومثالبهم، وقبلها رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصّل ذلك في قوله الشريف: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه، عجز بيت قديم ما زال مستحضرًا عند الوقوف والتأمل أمام صنوف شتى من الأذى التي يتعرض لها المتميزون وقبلهم الرواد والمبدعون، فهؤلاء فرّغوا أنفسهم للتجلي والإنتاج، وأضدادهم عاجزون عن اللحاق بهم، فتفرغوا لملاحقتهم ونبش منجزاتهم في محاولة للوصول إلى مثلبة تجعل هؤلاء المتعقبين في الصورة عكس الاتجاه وزاويا رؤية الحقيقة ونقدها وتقييمها. للأسف حضور هؤلاء الناقمين في المشهد يكون قدومًا من المجهول وغياهب الجهل ونقص التجربة، وفجأة ومع التقنية وتسهيلاتها يجد الواحد نفسه وقد وصل إلى أماكن عالية، هي في الأصل مكتشفة مسبقًا أو مطروقة بفعل إنساني بديع سواء كان إبداعًا أو اختراعًا أو مواقف كان لها ظرفها الزماني وخارطتها المكانية. هؤلاء ليسوا تابعين بقدر ما هم متتبعون لهفوات الآخرين وزلاتهم ومنجزاتهم للإبداع ضريبة وللتميز ثمن، وأكملهما شرفًا ومكانة أن يكون الناجح كتابًا يُقرأ لينتقص، ونصًا يعاد تأويله وفق المغنم والمكسب وطبيعة المرحلة وما تقتضيه من عداوات وصداقات، وبهذا يستمر الخلاف وتتسع الهوة بين عاجز آمن بعجزه، فعوضه بخصومة شرفها لها ونقصها ونقيضها لغيره، وبين مبدع كفاه من العاجزين على التمام أن يرصدوا مواقفه وأن يحصوا معايبه. ** **