لطالما اختلست النظر إليه من بعيد، كنت متأكدة أنه لم يرني ولم يشعر بي وهذا جعلني أكثر اطمئناناً وثقة، كان الكثير ممن حولي يرونه ذا هيبة ووقار، إذا تم فقط إدراج اسمه في حديث، يصمت الغالبية احتراماً له، كانت جدتي تراه أحياناً جميلاً عندما ينتبه لنا ويقرّر زيارتنا عندما يطول بنا العناء والتعب، كانت تؤمن بقوته وسطوته وتراه قدراً لا بد منه.. ذلك الزائر الذي نعتقد أنه يزور الآخرين فقط، حتى يقرّر زيارتنا.. فتتغير حياتنا. يقال إن الحزن يبدأ كبيراً ثم يصغر تدريجياً مع الأيام، الألم لا يصغر لكن يتوارى فالحزن له مراحل نفسيه, لن تستوعبه بالبداية، ستظن أنه مؤقت وسيعود كل شيء كما كان، ثم تدرك أن هذه هي حياتك الجديدة وعليك أن تتقبلها وتتأقلم على العيش فيها. فإذا كان الله منحنا الحياة فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلباً للحياة.. وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث، فلا حقيقة نتعامل معها وكأنها الوهم مثل الموت فالموت ليس نهاية القصة ولكن بدايتها.. لو خيِّرت بأن تختار مكاناً تتجه إليه وقت حزنك وضياعك وعذابات روحك، مكان تلجأ إليه بداية يومك ونهايته. هنالك من سيختار أجمل مكان على الأرض، لكن أن تتجه بكل جوارحك إلى أرض ليست ذي زرع، لا أنهار ولا بحيرات، إلى مكان لا يغري أي إنسان نظرياً، ذلك المكان لم يكن عبثياً لقد توصّل إليه نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما يئس من من كل الحضارات.. لقد حدَّد الله عزَّ وجلَّ مكان البيت وبحث عنه إبراهيم ووجده. الموت بالنسبة لنا سؤال يبعث على الدهشة والخوف.. لكنه بالنسبة للكون ضرورة حتمية وبداية انتقال جميلة.. يقول مصطفى محمود في كتابه «لغز الموت» إن الإنسان معجزة التناقضات. إنه فان ويحتوى على خالد وميت ويشتمل على حي. وعبد يحتضن قلباً حراً.وزمني ويحتوى على الأبدية.. كل منا يحمل جثته على كتفيه.. ليس هناك أغرب من الموت.. إنه حادث غريب.. أن يصبح الشيء .. لا شيء.. ثياب الحداد.. والسرادق.. والمباخر.. ونحن كأننا نتفرج على رواية.. ولا نصدق ولا أحد يبدو عليه أنه يصدق.. لأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى ونحن أحياء.. كل نقطة لعاب.. وكل دمعة.. وكل قطرة عرق.. فيها خلايا ميتة.. نشيعها إلى الخارج دون احتفال.. ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت.. في دمنا.. دون أن ندري عنها شيئاً.. ومثلها الكرات البيض.. وخلايا اللحم والدهن والكبد والأمعاء.. كلها خلايا قصيرة العمر تولد وتموت ويولد غيرها ويموت إننا معنوياً نموت وأدبياً نموت ومادياً نموت في كل لحظة ** **