يشهد الوطن نهضة متسارعة في شتى المجالات، من خلال نشاطات ومبادرات يمكن أن تقدم تجارب وقصص نجاح يستفيد منها العالم أجمع، ارتفعت الشمس في كبد السماء، ونسمة هواء طائفية تلطِّف الأجواء، جعلت صاحبيّ (أبو معتوق وأبو عمر) يتخليان عن ساعة الاسترخاء، ليستمتعا برؤية قطيع المها العربي يقف في شموخ بالعراء، لقد بقيا تحت ظل شجرة السمر بجوار خيمة الشَّعْر المجاورة لمسيج المها العربي، يتبادلان أطراف الحديث تارة، ويتصفحان هواتفهما النقالة تارة أخرى، ما إن وصلت إليهما حتى ارتفع صوت أبو معتوق الجهور الأجش قائلاً: «هلا أبا فيصل تعال جنبي.. تعال لك عندي أبيات شعر في المها أحلى من اللي جابها أبو عمر»، هنا رد عليه أبو عمر وقال: «يا أخي على هونك.. خَوّفت الرجال وجفّلت المها»، جلست بجوار أبو معتوق وهو يقول: اسمع يا أبا فيصل أبيات أبو تمام يذكر فيها المها العربي وأخذ ينشد: هنا أوقفه أبو عمر قائلاً: حسبك يا أبا معتوق هذه قصيدة يمدح أبو تمام فيها عمر بن طوق بن مالك بن طوق التغلبي، والقصيدة التي جبتها أنا في الغزل. هنا تدخلت وقلت لهما «كلاكما جئتما بأجمل ما قيل بالمها العربي، لكن الآن عندي لكما اقتراح، فالوقت يمر سريعًا، وعلينا التحرك لنصل للمحمية في الوقت المناسب، لذا أقترح أن نتحرك الآن لنتقابل في وسط الطائف عند مسجد عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وقلت لهما: «أوقفوا سيارتكم بالمواقف المجاورة للمسجد، نصلي الظهر ونتغدى ثم نكمل رحلتنا للمحمية». وما هي إلا لحظات حتى تحركت المركبتين لتبدأ رحلتنا لمحمية محازة الصيد (محمية الإمام سعود بن عبد العزيز) مروراً بالطائف، حيث توقفنا بالمواقف المخصصة عند مسجد عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو من أشهر مساجد مدينة الطائف، أنشئ عام 592ه أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء العباسي، ويقع بجوار المسجد المقبرة التي يقال إن عبدالله بن العباس دُفن فيها، والذي تنبأ رسول الله بموته ودفنه في الطائف. أوقفنا المركبتين بالمواقف وخرجنا لأداء صلاة الظهر ومن ثم عرجنا على مطعم مجاور للمسجد يقدم طبق المبشور الحجازي والذي اشتهرت فيه الطائف وعدد من مدن منطقة مكةالمكرمة، وقد دلتنا رائحة الشواء إلى المطعم، وجعلت أبو معتوق يهرول إليه هرولة. والمبشور عبارة عن مزيج من اللحم المفروم والثوم والبهارات على شكل كرات ملتصقة أو منفصلة مشوية على الفحم، ويفضل البعض أكله بالخبز البر والبعض الآخر يفضله مع الرز الأبيض، ويُقدَّم معه الطحينة والسلطة المطحونة الحارة. ولأول مرة منذ أن عرفت أبا معتوق أراه لاهياً عنا، فهو جالس بجوارنا بجسده، لكن فكره مشغول بما وُضع أمامه من أطباق، لا يتكلم ففمه ولسانه وظفهما فقط للتعامل مع طبق المبشور. تعريف إعادة للمها العربي ركبنا المركبة مرة أخرى بعد هذه الوجبة الدسمة، وجهتنا هي محمية محازة الصيد، سلكنا الطريق السريع الذي يصل الطائفبالرياض، وما إن تجاوزنا مطار الطائف الإقليمي ولاح لنا موقع سوق عكاظ حتى عاد أبو معتوق لسابق عهده من المرح، فقطع الصمت بأسئلة جميلة وعلى طريقته التي عودنا عليها طوال الرحلة قائلاً: «يا أبا فيصل قبل ما تدخل في موضوع التحديات والصعوبات التي واجهت عودة المها العربي، أود أن أعرف ماذا تقصد بالتوطين وإعادة توطين! وكيف يتم ذلك»؟ فنحن نسمع كل يوم واحد يطلق نوعًا مرة حمام ومرة ضبان، ابتسم أبو عمر ورد عليه قائلاً: «يظهر يا أبا معتوق المبشور أعطاك طاقة كهربائية، والشحن رجع عندك فُلْ، جعلك ما شاء الله تركز بالأسئلة»! نظرت لأبي عمر وقلت له: «خف على أبا معتوق يا أبا عمر والله كلامه وأسئلته ما شاء الله! ثم التفتُ إلى أبي معتوق وقلت له: «أنا أوضح لك لأنك ستسمعها أكثر خلال زيارتنا المحمية.. بالنسبة للتوطين وإعادة التوطين: حسب التعريف الذي قدمته مجموعات العمل الخاصة بالمحافظة على الأنواع والتابعة للاتحاد العالمي لحماية الطبيعة (IUCN) والتي نشرت ذلك بكتيب لها يحوي هذه التعريفات عام 1998م، ويحوي أيضاً إرشادات تم إعدادها بعد مراجعة علمية لعدد كبير من البحوث وبرامج توطين الحيوانات إلى البرية للحماية، وهذه الإرشادات تم تحديثها وفقاً للمعطيات والدراسات التي قيّمت برامج التوطين ليخرج كتيب آخر عام 2013م، يحوي توضيح أكثر للتعريفات وتحليل كامل لبرامج إطلاق أنواع للبرية لغرض حمايتها ربما لا يتسع الوقت لشرحها، لكن أبسطها بالتالي: في التحديث الأخير للإرشادات التي قدمها فريق التوطين عام (2013م)، تم تحليل عدد كبير من البرامج وتقديم تصور آخر للتوطين بحيث اعتبرت جميع البرامج هي نقل للحيوانات وأطلق عليها مصطلح (Translocation Spectrum)، وحتى لا أدخلكما في متاهات المصطلحات العلمية سوف أركز على ما يتعلق بالمها العربي، والذي اختفى من معظم مناطقه التاريخية، وعليه جرى إعادته لتحسين وضع النوع ولحفظ النظام البيئي للقيام بدوره الطبيعي بالمناطق المحمية، وهذا النقل يهدف لحماية مجموعات المها العربي وعرفها الكتيب بالنقل للحماية (Conservation Translocation)، بالإضافة لذلك فقد قدم الكتيب تحليلاً أكثر دقة لتقسيم النقل للحماية، حيث قسمه إلى أجزاء، الأول: إذا كانت المنطقة هي جزء من مناطق انتشاره السابقة، فإذا كان كذلك يدخل ضمن مصطلح (Population restoration)، وهذا أيضاً قسمه إلى قسمين إذا كان هناك أفراد بالموقع أم أنها اختفت تماماً، فإذا كان هناك أفراد قليلة بالمنطقة التي يتم فيها الإطلاق فتعرف بمصطلح (Reinforcement)، أما إذا كان اختفى ولا يوجد أي فرد من النوع المراد إطلاقه بالمنطقة فهذا يعرف بإعادة التوطين (Reintroduction). هنا أوقفني أبو معتوق قائلاً «خف علينا يا أبا فيصل ترى إنجليزيتنا على قدنا، وكل ما نريد معرفته ماذا نسمي إطلاق المها العربي في محمية محازة الصيد»؟ عندها أجبته «نعم هي إعادة توطين (Reintroduction)، وهو ما جرى للمها العربي في محمية عروق بني معارض بجنوب المملكة على الطرف الشمالي الغربي من صحراء الربع الخالي، فقد بدأ بإعادة التوطين بعد أن اختفى تماماً من المنطقة، لكن ما تم خلال السنوات العشر الماضية فهو (Reinforcement) حيث يتم تعزيز المجموعات التي تم إطلاقها بالمحمية. إرشادات الاتحاد العالمي لصون الطبيعة لتوطين الأنواع بالبرية نظرت إلى صاحبيّ فوجدت على وجهيهما علامات استفسار، فقلت لهما «خلونا من المصطلحات هذه ودعوني ألخص لكما أهم الإرشادات لعمل أي برنامج لإعادة حيوانات للبرية، وهذا ما لخصه الكتيب الأول للاتحاد العالمي لحماية الطبيعة، حيث حدد عددًا من النشاطات المطلوب القيام بها لإطلاق أي حيوان للبرية، كما قسمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل إطلاق النوع، ومرحلة خلال إطلاق النوع، وأخيراً مرحلة ما بعد إطلاق النوع. بالنسبة للنشاطات المطلوبة في مرحلة ما قبل الإطلاق فيمكن تلخيصها بالتالي: جمع المعلومات البيولوجية عن النوع: كالتصنيف والمعلومات التاريخية والجينية، كذلك إجراء دراسات عن حالة الحيوان، وفي وضع المها العربي كانت هذه من التحديات، فالمعلومات قليلة جدًا عن المجموعات البرية، ومعظم المتوفر من خلال المجموعات بالأسر بحدائق الحيوان، وأي إضافة للمعلومات البيولوجية عن المجموعات البرية فهو سيسهم لمعرفة احتياجاتها، والموائل المفضلة لها، ومدى تكيفها مع الأوضاع البيئية والسلوك الاجتماعي والغذائي، وحركتها، والتعرف على الأنواع الموجودة بالمنطقة، وما مدى قدرة النوع على التكيف معها، وتمكنها من البقاء. اختيار موقع الإطلاق: وفي حالة المها العربي فقد حرصت الهيئة أن يكون الموقع ضمن التوزيع الجغرافي للنوع، ويتعين أن تحظى المنطقة لحماية طويلة، ومناسبة مساحتها للحيوان، وهنا ما زال الباحثين في نقاش عن المساحة المناسبة لتوطين المها العربي، كذلك مناسبة مواقع المسيجات للإكثار في أول البرنامج، فهناك التجربة الأردنية التي بنت المسيجات في مجرى سيل مما أدى إلى غرق مجموعات منها. وللعلم فإن الاستراتيجية الوطنية للمها العربي تشير إلى تحديد ثلاثة مواقع على الأقل، والحمد لله تم التوطين في اثنتين وبقي واحدة، وإن شاء الله بوجود المحميات الملكية سوف يكون لها دور كبير في عودة المها العربي لأرض الوطن، كما أرجو أن يتبنى فكرة محميات مشتركة بين دول المنطقة فيما يعرف بالمحميات الحدودية، كمحمية بين السعودية والإماراتوعمان، وأيضاً بين السعودية والأردن والعراق مشابهة لمحمية سيرينجتي بين كينيا وتنزانيا والتي تلعب دوراً في الاقتصاد الوطني لهاتين الدولتين. تقييم موقع إعادة التوطين: ربما تكون المنطقة موجودة لكنها تحتاج إلى التأهيل، لذا فإن تقييم الموقع وتأهيله لاستقبال النوع متطلب أساسي، مثلاً محمية محازة الصيد كانت جرداء، وكان لزاماً حمايتها من الرعي الجائر. إزالة المسبب الذي أدى إلى اختفاء النوع: وبالنسبة للمها العربي كان الصيد الجائر، وهذا ربما من أهم المواضيع التي أدى إلى تدهور أعداد المها العربي، فبعد 15 سنة من إطلاقه إلى البرية، كذلك هذا السبب (الصيد) ربما يهدد قطعان المها لأي برنامج آخر، وهذا وضح جلياً بمحمية العروق مما جعل الهيئة تقوم بتكثيف الدوريات حول المحمية، إضافة إلى ذلك القيام ببرامج تعزيز لقطعان المحمية، وذلك بنقل أفراد من المها العربي سواء من المركز أو محمية محازة الصيد سنوياً لتعزيز حماية النوع بالمنطقة، وعليه يجب إزالة المسبب الرئيس الذي أدى إلى انقراضه، والصيد حسب ما ذكرت لكم هو السبب الرئيس لانقراض المها العربي وأنواع أخرى. هنا قاطعني أبو عمر ووجه كلامه لأبي معتوق.. «سامع الكلام سامع.. الصيد أدى إلى إفناء هذه الحيوانات وحرمنا شوفة زينة الأرض، نمشي لنا الآن ساعة وشوي وما شفنا شيء، والرحالة القدماء مشو وما فارق منظر الغزلان والحيوانات البرية ناظرهم، وأنت السبب يا أبو معتوق وأمثالكم». التفت أبو معتوق وأجاب أبو عمر وقال.. «والله أنا ما أصيد إلا على حق أكل اليوم»، التفت إليه وقلت «أخي أبو معتوق الصيد صحيح حلال، لكن ذلك لا يجعلنا نفني أمه تسبح الله، ولا يجعلنا نغضب الله في معصيتنا لولي الأمر والذي منع الصيد لهذه الحيوانات، والحقيقة لا أود أن أدخل في جدال معك، لكن الدراسات العلمية تشير لو كان عندنا 100 غزال وجاء الفهد وأكل واحدة، فالخسارة 1 %، لكن لو كان عندي 10 غزالان وجاء الفهد وأكل واحدة فالخسارة 10 %، فما بالك بالحيوانات لدينا كالمها العربي والغزلان والوعول الجبلية، فكل واحدة منها تموت بالبرية تقرب فصيلتها للانقراض». هنا أومأ أبو معتوق برأسه وقال: «كمّل يا أبو فيصل.. كمّل تراك أحرجتني»، فأجبته سريعًا: «حاضر يا أبا معتوق، لكن نرجع لك بعدين، الآن أكمل ذكر النشاطات للمرحلة الأولى، وفي المحمية نستكمل حديثنا لأنه بقي أقل من ربع ساعة على وصولنا»، ومن النشاطات المطلوبة وكانت جزءًا من التحدي للمها العربي هو توفير الأعداد المناسبة للإطلاق، وهنا الحديث عن قطعان المها بالمركز، أما في محازة الصيد فقد تم جلب حوالي 80 رأساً من مصادر مختلفة، فمنها 15 رأسًا جُلب من حديقة سان دياغو بالولايات المتحدةالأمريكية، وستة من محمية الشومري بالأردن، واثنان من حديقة حيوان بسويسرا، واثنان من حديقة العرين بالبحرين، ومن مركز الأمير سعود الفيصل 43 رأساً، كما جلب رأس واحد من كلٍ من قطر وألمانيا، وهذا التنوع في مصادر قطيع المها ساهم في جعل قطيع بالمحمية يصنف من أفضل المجموعات البرية بدول الانتشار جينياً، تطلبه معظم الجهات التي بينها وبين الهيئة تعاون إقليمي بهذا الخصوص. ومن الدراسات العلمية التي يجب القيام بها وتطبيق نتائجها الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والتركيبة السكانية: وهذه من أهم المواضيع، وذلك لتقييم الآثار والتكاليف والمنافع الناجمة عن برامج إعادة التوطين على السكان المحليين، وإجراء تقييم شامل لمواقف السكان المحليين تجاه المشروع، وذلك للتأكد من استمراريته على المدى الطويل، وعلى فكرة فإن تجربة سلطنة عمان مهمة بهذا الموضوع وتؤكد أهمية هذا النشاط وتطبيق نتائجه. ومن الأنشطة كذلك توفير الأنظمة التشريعية: كوضع أنظمة وعقوبات تحمي هذه الحيوانات، وهذا النشاط جدًا مهم، وهنا أذكر بحرص حكومتنا الرشيدة التي تعمل حالياً على إصدار نظام الشرطة البيئية والتي ستعمل على ضبط المخالفات البيئية بالمحميات وخارج المحميات. ومن النشاطات المهمة أيضًا في هذه المرحلة: عمل برامج توعية مكثفة، وأذكّركم بما قامت به الهيئة في بدايات المشروع من برامج مثل برنامج قافلة الحياة الفطرية، صحيح أن هناك قصورًا في برامج التوعية لكن نقول -إن شاء الله- الآتي أفضل. جولة في محمية الإمام هنا توقفت عن الكلام، فقد اقتربنا من المحمية، وعلينا التوجه للبوابة الجنوبية الغربية القريبة من مخيم الأبرق، وهو أول مخيم وضع لحراس المحميات (جوالي الهيئة)، وعليه خرجنا من طريق الطائف - الرياض السريع، وما هي إلا دقائق حتى توقفت بنا المركبة أمام البوابة، وكان بانتظارنا زميلاي بالعمل والباحثان بالمحمية؛ الأستاذ خيري إسماعيل والأستاذ مؤيد شير شاه، فتحا لنا البوابة وبعد تبادل التحايا استأذن أ. خيري منا لظروف خاصة، وللعلم فخيري يعتبر أحد أقدم الباحثين في برنامج المها العربي ليس في المملكة ولكن بالمنطقة، ودعناه ودعينا له بالخير والسلامة وقد ركب مركبته وغادرنا، هنا التفت إلى صاحبي وقلت: «كنت أرجو أن يكون معنا فهو من أقدم العاملين بالمحمية ومع المها العربي، فقد عمل مع بدايات المركز ثم انتقل للمحمية مع بداية برنامج التوطين، لكن هذا أخونا مؤيد -إن شاء الله- يقوم بالواجب، رغم أنه نوى أن يشد الرحال ويغادرنا للعمل بدولة الإمارات العربية المتحدة ليكتسب خبرة في مجالنا هذا نفسه». ركب معنا مؤيد وانطلقت بنا المركبة، فمررنا بمسيجات قرب مخيم حراس المحميات، وقبل أن يبادر صاحبي بالسؤال عن هذه المسيجات تحدثت عنها قائلاً: «هذه مسيجات تعرف بمسيجات ما قبل الإطلاق، ولتوضيح دورها أود الإشارة إلى أن هناك طريقتين لإطلاق أسر الحيوانات في برامج التوطين، الأولى تعرف بالإطلاق السهل: وهذا يتم بإعداد أماكن للإطلاق وترك الحيوان فترة بها مع توفير الماء والغذاء، تم يترك له فرصة للخروج مع الاستمرار في وضع الماء والغذاء لفترة محددة قبل أن يقطع عنه ذلك، وهذا ما تم هنا، فهذه المسيجات وُضع فيها المها العربي قبل إطلاقها للبرية عام 1990م، والذي تم تحت رعاية رجل البيئة الأول الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله. أما بالنسبة للنوع الثاني من الإطلاق فهو ما يعرف بالإطلاق الصعب: وهذا يتم عادة بجلب الحيوانات أو الطيور للمنطقة وتركها مباشرة لتواجه جميع الصعوبات بدون تأهيل الطيور أو إعطائها فرصة لتكيفها مع البيئة المحيطة، وهذا النوع من الإطلاق لا يحبذ كثيرًا خاصة أن نسبة النفوق أعلى في هذا الإطلاق، وقد جربت الهيئة هذا النوع من التوطين كتجربة مع طيور الحبارى. ثم اتجهنا إلى منطقة خرص وسط المحمية حيث كان هناك قطعان من المها العربي حيث شاهدنا قطعانًا تضم عشرة وأخرى سبعة وأخرى خمسة، إضافة إلى أفراد من الذكور التي تسير منفردة بعد أن طردت من القطيع، لقد كان منظر قطعان المها العربي جدًا رائعًا، كنا نتوقف عند كل واحدة منها في كل مرة نصور ونطلق لمخيلتنا العنان فقد عاد المها العربي لموطنه، ومما زاد المنظر جمالاً منظر ظباء الإدمي والريم والتي كان بعضها ينظر إلينا وأخرى تجري بقفزات رشيقة متعة للناظرين، وهي بحق زينة الأرض تسر الناظرين. متابعة المها العربي بالمحمية خلال تأملنا لجمال قطعان المها العربي أمامنا، تحدث أبو معتوق بصوته الجهور وهو ينظر من منظار كاميرته وقال: «هناك علامات على المها العربي! هل هناك برنامج متابعة»؟، نظرت للاتجاه الذي كان ينظر إليه أبو معتوق وأجبته قائلاً: «نعم يا أبا معتوق تتم متابعته عن طريق الباحثين والجوالين، وهناك برنامج لترقيم القطعان لزيادة دقة نتائج التعداد الذي يجري مرتين سنوياً، وهذا التعداد يسهم في تقييم وضع المها العربي كجزء مهم في تطبيق خطة المتابعة، وللعلم فإن خطة المتابعة تبدأ من مرحلة وجودها بالأسر قبل أن يتم إطلاقها بالمحميات، حيث تتم متابعة الحالة الصحية والجينية للقطعان المستهدفة للإطلاق، والتأكد من خلوها من الأمراض والجراثيم والطفيليات المعدية، وعمل التحصينات المناسبة، وتطبيق خطط خاصة للنقل. ومن النشاطات الأخرى المطلوبة التواصل مع الجهات المعنية وأصحاب الممتلكات داخل المحمية المختارة والمنظمات الوطنية والدولية للحصول على الموافقات المطلوبة للتنفيذ المشروع وإعلانها مناطق محمية، إضافة إلى ذلك ضرورة زيادة التوعية مع توفير المبالغ اللازمة لتنفيذ البرنامج». وللعلم فإن مرحلة ما بعد الإطلاق تركز بشكل كبير على المتابعة الطويلة المدى للمجموعات ولكل فرد بالمجموعة، بواسطة الأرقام التعريفية تعرّف أفراد المها العربي للجوالين والباحثين، كذلك لإجراء دراسات ديموغرافية وبيئية وسلوكية للأعداد، ودراسة تكيفاتها على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك فإن برامج المتابعة في هذه المرحلة تشمل متابعة الأفراد النافقة وأسباب نفوقها وأعدادها، مع الاستعداد التام للتدخل عند الضرورة واتخاذ القرار لتعديل وجدولة البرامج، وأخيرًا التأكيد على أهمية تطبيق برامج توعوية فعالة بشكل مستمر. بدأت الشمس تخف من وهَجِها، واقترب وقت مَغِيبها، لتعلن وصول رحلتنا إلى نهايتها، فاتجهنا ناحية البوابة الشمالية الغربية للمحمية، بالقرب من مدينة المويه والتي يقع عندها المخيم الرئيس لحراس المحمية، ويجدر الإشارة هنا أن حراس المحميات ساهموا في برامج المتابعة بشكل واضح خاصة مع بداية إنشاء المحمية إلى وقت قريب، مما ساهم في دعم الباحثين بالمحمية والتي كان لها الأثر في نجاح التوطين لكثير من الأنواع الفطرية بالمملكة كالمها العربي وظبي الريم وظبي الإدمي وطائر الحبارى، وأتذكر هنا أنه بعد إطلاق قطيع المها العربي بالمحمية تحت رعاية الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- تحركت مجموعة من القطيع إلى مناطق لم يكن من السهل الاستدلال عليها، على الرغم من وجود أجهزة متابعة عليها، إلا أن قدرة الجوالين في تتبع الأثر بشكل عجيب ساهم بتتبعها بسهولة، حيث يسير على إثرها وكأنه يتبع سيارة أخرى أمامه. وصلنا مخيم المويه الرئيس بعد الغروب، وسلمنا على من وجدنا من حراس المحمية، لتبدأ رحلة عودتنا للطائف، فما أن سلكنا الطريق السريع للطائف حتى هدأت الأصوات بالمركبة، وبدأ عناء الرحلة يدب في عروق صاحبيَّ، فداهمهما النعاس فأطلقا له العنان ليخيم السكون داخل السيارة حتى شارفنا مدخل الطائف أيقظت صاحِبيَّ، ثم أوصلتهما لموقع مركبة (أبو عمر)، فعليهما أن يكملا رحلتهما إلى جدة، خرج أبو معتوق من المركبة، وابتسامة عريضة على محياه، تبين عن رضاه عن هذه التجربة، وأقبل عليَّ يودعني ثم همس في أذني: «شكراً، وتراني تُبْتُ عن الصيد وإذا عندكم برنامج للتطوع للعمل بالمحمية فأنا حاضر»، أما أبو عمر فقد سلم وشد على يدي وقال: «أخي أبو فيصل سعدنا بما رأينا وسمعنا، الشكر لله ثم للقائمين بالهيئة ولكل من ساهم في عودة المها العربي، فهي بحق تجربة يجب أن يوثق نجاحها لتقدم للعالم باسم الوطن».