وإذا كانت اللغة (الكلام) إحدى ثمرات التفكير؛ فإن التفكير وجميع عملياته نفسها، إنما يتم نضجها في عقل الإنسان من خلال اللغة (النظام اللغوي)، وهذه العلاقة الجدلية بين اللغة والتفكير، تجعل الإنسان الذي يتعلم الأشياء بلغته أكثر قدرة على التمثل والإدراك والتحصيل الواعي المتميز بالتمكن من تصور الأشياء والحكم عليها ونقدها، وإنشاء علاقات جديدة بين مفرداتها، وإنتاج قيم علمية على أساسها، وبالتالي القدرة على الإبداع بها. وكثيراً ما أثار الداعون لتعليم العلوم بالعربية، هذه العلاقة بين اللغة والفكر، وبنوا عليها دعوتهم تلك، مُعَوّلين على أن الإنسان يفكر آلياً بلغته، مما يمكنه من تحصيل كمية من الحقائق والمعلومات، لا تتأتى له عن طريق لغة أجنبية عنه؛ (انظر : مازن المبارك، اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي ص 28)، فاللغة منهج للتفكير أو هي التفكير؛ (انظر : صابر عبد المنعم محمد عبد النبي؛ فلسفة التعليم باللغة العربية وباللغات الأجنبية، وبحوث مؤتمر جامعة القاهرة، ص 105). لقد خلق الله الإنسان، الذي هو هدف لهذه الرسالة القرآنية، الموجهة إليه بالدرجة الأولى بوصفه أحد الثقلين؛ الجن والإنس؛ قال تعالى : «يا معشر الجن والإنس» الأنعام 103؛ خلقه الله في أحسن تقويم، وخلقه كائنا لغويا بيانيا؛ بحيث كان من مظاهر هذا الخلق القويم، أن جعله عاقلاً مفكراً، يدرك ويتعلم ويفهم البيان وينطق به، ولهذا قال الله تعالى : (الرحمن علَّم القرآن، خلق الإنسان علَّمه البيان») الرحمن 1 - 4، وقد اقتضت نعمة علم القرآن وتعلمه، أن الله الذي خلق هذا الإنسان، قد علَّمه (البيان)، لقد منَّ الله تعالى على الإنسان بأن منحه القدرة على التعبير والإفصاح به، وذلك بقوله تعالى : (الرحمن علَّم القرآن، خلق الإنسان علَّمه البيان) الرحمن 1 - 4. والقوة البيانية عطية خاصة من الله تعالى للإنسان، خصها الله تعالى بالذكر في موضع الإحسان بعد ذكر نعمته بمنح الإنسان الحياة في هذه الدنيا» فجعله الله ناطقاً، قادراً على التعلم ليثري موهبة النطق عنده، بموهبة البيان الواضح الذي يعكس مدى تعلمه وتفاعله مع ما يتعلمه، ويعكس قدرته الإيجابية على إعادة إنتاج ما تعلمه في شكل منجز بياني، ومنجز سلوكي، ولهذا بيَّن الله تبارك وتعالى للملائكة الكرام، ميزة هذا الإنسان، وجوهره الحقيقي في قدرته على التعلم، وقدرته على إعادة إنتاج ما تعلمه، وذلك حين أراد الله أن يجعل هذا الإنسان خليفة في الأرض، وذلك في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} (33) سورة البقرة. وعماد هذه القوة الأدبية، والفاعلية اللغوية لدى الإنسان هو تواصلها مع عمق الإنسان الجوهري الذاتي فيه، وهو جوهره المعرفي العلمي الإدراكي البياني الفكري؛ ولهذا قال الله تعالى :(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (114) سورة طه، وقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (9) سورة الزمر. ومن خلال هذا الرصيد العلمي والملكة اللغوية البيانية يستطيع التفاعل تذكراً وتفكيراً؛ ولهذا قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44). سورة النحل. وقال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)، سورة الأعراف. ولأهمية النطق والبيان في التعقل والتفكير، نجد إبراهيم عليه السلام، يسخر من قومه الذين يعبدون الأصنام وهي أحجار لا تنفع ولا تضر، وليست لديها ملكة النطق والبيان «قال بل فعله كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون» الأنبياء 63. وهكذا تكون الرسالة القرآنية، متوافقة تماماً مع الخلقة الإنسانية، ذات الطبيعة البيانية، ليتم التكامل والتناغم بين الرسالة ومتلقيها، وسبحان الله الرحمن الذي علَّم القرآن وخلق الإنسان علمه البيان! وللحديث صلة. ** **