إن التفكير في نشأة الإنسان كان وراء التفكير في نشأة اللغة، فالمصريون القدماء يعتبرون اللغة منحة من السماء من الإله توت إله الحكمة والإنسان كان مجرد مستقبِل لهذه المنحة. أما اليوناني هرقليطس، فاللغة عنده إلهام هابط من السماء أيضاً، وعِلمُ الأسماء يؤدي إلى علم الأشياء، لأننا حين نعرف حقيقة الاسم، نعرف بالضرورة حقيقة المسمَّى. أمَّا ديمقريطس، فيرى أن اللغة ظاهرة يتفق عليها البشر، يعني اجتماعية وليست سماوية، فيصطلحون عليها، وتتطور بتطورهم، وعلى هذا، فلا يقودنا علم الأسماء إلى علم الأشياء، لكن تراوَحَ رأيْ أفلاطون بين الرأيين، فهو في الوقت الذي يرفض أن تكون الأسماء وليدة الاتفاق والاصطلاح، يقول:"إنَّ الأمر إذا كان أمر توقيف من قوة عليا، فكيف يكون هناك تفسير للخطأ، فبعض الأسماء يشير إلى الضديْن مثلاً، فهل من المعقول أن ننسب الخطأ إلى هذه القوة؟!". ويقول الدكتور عبده بدوي في كتابه أهمية تعلُّم اللغة العربية: الملاحظ أن الإغريق كانوا أول من تعرض لفلسفة اللغة، أما الهنود فسبقوهم في التوصل إلى تبويب وافٍ لأجزاء الكلام في لغتهم. وفي المسيحية وقف رجال الكنيسة إلى جانب التوقيف، فالقديس يوحنا افتتح إنجيله بعبارة"في البدء كانت الكلمة". كما جاء في سِفر التكوين:"أن الرب أحضر الكائنات إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفسٍ حية فهو اسمها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم، وطيور السماء، وجميع حيوانات البرية". أمَّا القديس غريغوريوس فموقفه يشبه موقف أفلاطون، لأنه تعامل مع التوقيف والاصطلاح، حين أكد أن الله تعالى إذا كان أعطى مَلَكَة بناءِ البيت، فإنَّ الذي بناه هو نحن. وإذا جئنا إلى الإسلام وجدنا الكثرة وراء القول بالتوقيف اعتماداً على قول الله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ... البقرة 31 - 33، إضافة إلى قول الله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم [الروم 22]. ولعلَّ أول إشارة إلى ذلك ما جاء في تفسير سورة البقرة على لسان عبدالله بن عباس، إذْ قال:"وعلَّمه الأسماءَ التي يتعارفها الناسُ، من دابةٍ وأرضٍ وسهلٍ وجبلٍ وحمار، وأشباه ذلك من الأمم". وعلَّق الإمام الباقلاني الأشعري في كتابه"التمهيد"على هذه القضية فقال:"فلو كان العباد يخلقون كلامهم وحركاتهم وسكناتهم وإرادتهم وعلومهم... لكانوا قد خلقوا كخلقه، وصنعوا كصنعته، ولتشابهَ على الخَلْقِ خلقه وخلقهم". وجرى في هذا المضمار كثيرون منهم: ابن حزم الظاهري في كتاب"الإحكام في أصول الأحكام"فقد ربط قضية اللغة بقضية البرهان على وجود الله، باعتباره معلِّمَ كل شيء، فلو كان الكلام اصطلاحاً لمَا كان يمكن أن يقوم به إلّا جماعة كاملة الأذهان، متدربة العقول، تامة العلوم، وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جداً. الإلهام والتأييد الإلهي أمَّا إخوان الصفا فيقرنون فكرة الإلهام بالتأييد الرباني الذي يتجسد في إعمال الفكرة، وإنتاج القريحة، ووجوب الرويَّة. والملاحظ أن السكاكي في"مفتاح العلوم"والخفاجي في"سر الفصاحة"والرازي في"المستصفى"لا يذهبون بعيداً من هذا. أمَّا جابر بن حيان في كتابه"ميزان الحروف"فيرى أن اللغة تنبثق عن النفس، في ضوء الصلة التي تكون بين طبيعة اللغة وبين طبيعة الجسد، والتي تشبه في الوقت نفسه الصلة بين الوتر والنغم. وعموماً فالأسماء لا تستغرق العموم المطلق للغات جميعاً، كما لا تستغرق مخزون اللغة الواحدة، وإنما تعني ما يسد حاجة الإنسان إلى الكلام في لحظة استعمال اللغة. ويرى عبدالسلام المسدي في كتابه"التفكير اللساني في الحضارة العربية"أن القدامى احتاطوا حين ركزوا على أن التوقيف وقع على لغة واحدة في أول الأمر، ثم كان التوقيف بعد الطوفان في أولاد نوح حين تفرقوا في الأرض، على حد ما ينقل السيوطي في كتابه"المزهِر"عن الزركشي. أما الشيخ محمد متولي الشعراوي فيقول:"إن اللسان الذي نتكلم به لا يرتبط بالجنسية، لأن اللغة ابنة المحاكاة". ويرى عبده بدوي"أن جماع الأمر أن اللغات ترجع إلى الأنبياء الذين تلقَّوها بوحي". أما التيار الآخر القائل بالاصطلاح، فقاده قديماً بعض المعتزلة، وبعض اللغويين وبعض الفلاسفة. فأبو إسحاق الإسفراييني قال:"إن الابتداء وقع بالاصطلاح، وإن التتمة كانت من الله". وأما أبو هاشم الجُبَّائي، فيرى أن"الإلهام لا يكون إلا بعد التواضع على صيَغ بعينها". في حين أن الفارابي وصل في هذه المسألة وصل في ما سماه"جماعة المُدبِّرين". وإذا كان السيوطي شبّه قضية الاصطلاح بحال الوالدات مع الأطفال، فإن ابن خلدون كان قد ركز على ما سماه"الملَكة"ليسوِّغ وجود الفعل وتكراره، حتى يصبح صفةً مقيمة أو ملكة راسخة. وينتهي آخرون إلى أن اللغة عوملت من منظور الفكر العربي معاملة الكائن الحي، فهي تعيش وتنمو بحكم سلطان القوى الضاغطة على مجالها الحيوي، وبحكم الأبنية العلوية في حياة الشعوب، كما أنها تخضع لنواميس الحياة، ضعفاً وموتاً، في ضوء مقولة ابن حزم التي ترى"أن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم، أو باختلاطهم"! أوْ كما يقول ابن الراوندي الذي يرى أن اللغة من طبيعة الإنسان، ولها نظيرها في أصوات الحيوان، والطفل يتعلم اللغة من أهل بيئته المحيطة به، وتلك عملية لا مبدأ لها. وكان السؤال الذي يقول:"هل اللغة توقيف وإلهام، أم مواضعة واصطلاح"؟ وراء إشكالية"خَلْق القرآن"التي قال بها المعتزلة! فالقول بخلق القرآن ? وهو كلام - يستوجب القول إن الأصل في اللغة هو المواضعة والاصطلاح، وبالعكس يقتضي القول بعدم خلق القرآن الميل إلى أن اللغة توقيف وإلهام، وهؤلاء يمثلهم أهل السنّة والأشاعرة. نظرية التوفيق اللغوي من هنا، نرى أن القول بالمواضعة والاصطلاح كان ضارب الجذور في صلب التفكير العربي، لكن الكثرة الكاثرة من المفكرين الإسلاميين لجأوا إلى أسلوب جديد خاص بهم، وهو ما يسمى ب التوفيق وكان وراء الوقوف إلى جانبي ظاهرة التوفيق، وجود القرآن الكريم باعتباره نصاً مُوحَى به، وموثقاً في الوقت نفسه. فمثلاً، نجد فخر الدين الرازي انتهى إلى القول بما يمكن أن يسمى تكافؤ الأدلة. وسار على هذا الطريق الغزالي في"المستصفى"والطبري في"جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، وابن جِنِّي في"الخصائص"، وحتى القاضي عبدالجبار المعتزلي، بعد أن ألقى على القضية أكثر من ضوء، فقال:"لا يمكن القطع"، وهناك من قال"بتجويز الأمريْن"، ومن قال"إن الإنسان أُلهِم أصول المواضعة، ولم يلهم أصول اللغة نفسها". ونجد في ما رواه الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه يذكر أن قدماء العرب تسع قبائل قديمة: طسم، جديس، جهينة، خثعم، العماليق، قحطان، جرهم وثمود. وهؤلاء قدماء العرب الذين فتق اللهُ ألسنتهم بهذه اللغة العربية، وكان أبناؤهم عرباً، وهم: هود، صالح وشعيب. والعرب المستعرِبة أولاد إسماعيل، سُمُّوا المستعرِبة، لأنهم أخذوا اللغة عن العرب العاربة، وتعلموها عنهم، فالقول إن هؤلاء القدامى فتق الله ألسنتهم بهذه اللغة، والقول بأبوة إسماعيل للعرب، وإنه أول من تكلم العربية، يؤكد القول ب توقيف اللغة. لكن أبا عمرو بن العلاء يرى أن العربية ولدت كاملة، وليس لنا أن نخترع، أو نقيس، أو نخرج على ما قيل، لأن في ذلك فساد اللغة، ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى تطور اللغة. ويذهب عبده بدوي إلى أن الرأي الذي كان سائراً في المسيرة العربية، هو الرأي القائل ب التوفيق بين الرأيين، وأنه كان وراء ذلك النص القرآني. فمع إيمانهم بتطور اللغة كانوا يؤمنون بسماوية النص القرآني، ثم إن اللغة كانت غالبة لغلبة الدِّين، والدِّين إنما يستفاد من الشريعة، وهي بلسان العرب، على حد تعبير ابن خلدون في"المقدمة". وفي العصر الحديث، سار التفكير إلى القول بالاصطلاح، ابتداءً من القرن التاسع عشر، حين خضع علم اللغة للتأثير الاجتماعي والنفسي والفلسفي والتاريخي. وفي القرن العشرين ظهر الميل إلى دراسة اللغة على ما هي عليه، حين وقفت عند حد وصف المظاهر، فركزت على الصوت والشكل والتركيب، ومن الذين برزوا في هذا المجال"مدرسة براغ"التي دعتْ إلى ما يسمى ب"التحالف اللغوي"إضافة إلى دور الماركسيين الذين قالوا:"إن اللغة ظاهرة اجتماعية طبقية". ودور الأميركيين الذين برزت فيهم مفاهيم إدوار سابير وليونارد بلومفيلد، ولا يخفى دور تشومسكي الذي ركز على الإبداعية اللغوية، ودو سوسير الذي قال باستقلالية علم اللغة، ودراسة العناصر والصلات اللغوية، وما بينها من علاقات بمعزل عن أية تأثيرات خارجة عنها. وفي هذا الوقت ظهر ما سمي"قحط اللغة"إزاء المشاعر الإنسانية، فكانت هناك وقفات عدة عن صلة الفكر باللغة، في ضوء ما ركز عليه الأدباء من القول بأزمة اللغة، وقصورها إزاء الفكر. وكان لهذا صداه في العالم العربي، كما ظهر في مقولة جبران خليل جبران"لكم لغتكم وليَ لغتي"وفي ما كتبه ميخائيل نعيمة في كتاب"الغربال"فقال:"ولقد كان كل هذا يدور في إطار التعامل مع اللغة كاصطلاح لا توقيف". ويرى عبده بدوي أنه كان وراء هذه الآراء والظواهر عوامل كثيرة في مقدمها أن التوراة والإنجيل يعتبران توراةً وإنجيلاً في أي لغة مترجمة، أما القرآن فلا.