مهما أملنا أن يمتد العمر بمن نحبهم ونودهم ونقرهم ونعرف فضلهم فإننا نفتقدهم واحداً بعد واحد، إذ لكل عمر مقدور، وميقات معلوم، وأجل محتوم: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، ولسنا نملك إزاءهم إلا التسليم لقضاء الله الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولقد خلف اختيار الموت لفضيلة شيخنا القاضي علي قاسم من بيننا في النفوس غير قليل من الأسى واللوعة، وضاعفهما «أنه حين حين نزل به القضاء وعلم الزملاء والطلاب بالنبأ المحزن أسرعوا من المناطق يحاولون تشييع جثمانه إلى مقره الأخير غير أنه لم يكتب لمن خارج المملكة أن يكون بين مشيعيه، حتى ينظر كيف يوارى التراب هذا الجسد الطاهر، بل هذا العلم الشامخ من أعلام الشرع والقضاء، وكأنما شاء قاصداً أن يرحل في هدوء دون أن يتكلف أحد من زملائه وطلابه أيّ مشقة يوم وداعه وأفول نجمه. اللهم ارحمه.. واغفر له واحله.. صاحب فضل كبير وعالم جليل. تدين له فيفاء بسجل مكارم خالدة.. معلم وقاض له في العلم باسق نباهة، ومواطن وشاعر جمع من المحاسن أجملها، ومن العبادات أتقاها، ومن الصفات أنقاها. قاد مرحلة في العقيدة والسلوك والمبادئ عز مثيلها.. أقولها محزوناً: لقد أخلى فقيدنا في موطنه مكاناً لا يسد أبداً لخلقه الرفيع النبيل وعلمه اللغوي والأدبي الغزير، وأي زميل له منا لا يخالجه الحزن العميق حين يذكر ما فقدناه فيه من طمأنينة النفس وصفاء الروح وطلاقة الوجه وعفة اللسان؟ وبالمثل ما فقدته فيه جازان من قهر المشاكل العويصة وما كان يقدم لها من حلول سديدة في صوت محب هادئ متزن لين خفيض وكأنما يتكلم همساً، لقد كانت وفاته الفجائية صدمة هزت أعصابنا وتركت في نفوسنا أشد الحزن وأعمق الأسى ويبدو أننا في غمرة الحزن والأسى ننسى أنه ليس للموت مواعيد، وليس للأجل مواقيت فكم من رجل يخرج من بيته سليما معافى ثم يدركه الموت فلا يعود إلى داره إلا محمولاً، وكم من رجل يمسي وفي صدره آمال كبار ثم يصبح فإذا هو خبر من الأخبار.. هذه إرادة الله الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. نجم هوى وعلم غاب، وعالم لن يتكرر.. دمث الأخلاق، ورع، جمع بين جمال المنظر والمخبر.. لا تأخذه في الله لومة من لائم. يحب العلماء والبؤساء على حد سواء.. أخذ من فيفاء المنعة والقوة والحصانة والمروءة والرقة والأخوة رفع الأذان وتلا القرآن علمني طفلاً ورفاقي كيف يكون المسلم عادلاً صادقاً محباً صالحاً مواطناً موحداً معيناً على البر نزاعاً للمعالي سباقاً لحماية وطنه ومكتسباته وقادته. اللهم ارحم معلمي الأول، وأسبغ عليه شآبيب رحمتك، وأحسن نزله، وارفع درجاته، وتقبله في عبادك الصالحين. اللهم ارفع بما ناله من تعب درجاته وأسس له دار كرامة يجد فيها أهلا خيراً من أهله ومستقراً خيراً مما كان فيه. اللهم إن عبدك قد جاور بيتك وعمر بطاعته ساعات كبره.. اللهم اعف عنه وكفر ذنوبه، وهبه ما وعدت به الصالحين من حفظة كتابك يا أرحم الراحمين. اللهم في هذه الساعات المباركة من شهرك الكريم وبفضل الصائمين القائمين الراكعين الساجدين.. ارحم عبدك وابن عبديك القادم بين يديك. لا يلوي من دنياه الفانية على شيء إلا رحمتك التي وسعت كل شيء. اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس. الحمد لله {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، رحم الله وجهاً علمني ووجهني.. رحم الله جبيناً قبلته في آخر لقاء وإن بعد وكفا هويت إليه لاثماً عرفاناً.. رحمك الله شيخنا الجليل علي قاسم آل طارش الفيفي.. عزائي لزوجاته وأبنائه وبناته وأحفاده وأحبابه في كل مكان وتحت أي سماء عزائي لفيفاء وأهلها ومع هذا فإننا نؤمن إيماناً راسخاً عميقاً بأن كل حي إلى فناء وإن كل نفس ذائقة الموت وإن لكل إنسان أجلاً محتوماً وقدراً مقدوراً.. رحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عما قدم للفكر والشرع والثقافة بخير ما يجزي به عباده المخلصين العاملين. ** **