إحدى الطبيبات الموهوبات، تواصلت معي بخصوص تحليل يخص أحد مرضاها، سألتها عن مصطلح طبي صعب عليّ فهمه في لحظتها، فكانت إجابتها سريعة وحاضرة، قالت: لا أدري. لم تحاول تلك الطبيبة أن تتذاكى أو ترتبك كعادتنا العروبية الأصيلة التي ترى أن قول لا أدري منقصة بحق العالم والمتعلم وبينهما المتعالم الجاهل. كتأصيل شرعي لهذه العبارة (لا أدري)، فهي نصف العلم عند البعض، وعند آخرين هي الفتوى السليمة الآمنة المطمئنة، تبعًا للقول المشهور: من قال لا أدري فقد أفتى، جمهور الحكماء يرون -لا أدري- من صميم المنهج الحق في تبيان الحلال والحرام وتعقب الصحيح من الضعيف والمتفق عليه من الموضوع وهكذا. في الشأن الثقافي يتصدى للمعرفة بكل أنواعها أطياف متنوعة من المشتغلين بهذا الفن والهم، بعضهم يرون أنفسهم أولي النهى، وغيرهم مبتدِئ لا يعقل، يهرف بما لا يعرف، يتحدثون في كل شيء، ويتناولون المعرفة والثقافة بطرق توحي للبسطاء أنهم التأصيل في أسمى معانيه، يتدخلون في علوم كثيرة، ويتداخلون مع رموز فنون أخرى، وعندما تسألهم عن الحقيقة كضرورة ومنطلق للفهم والحجة والبرهان، يلتفون على الواقع ويتخندقون حول شرعية الرأي كحق يخولهم القول والفعل والتماس والمساس بكثير من ضوابط العمل الثقافي وما يتطلبه من ضرورات إدراك كثير من جوانبه المعرفية الكثيرة والمثيرة. ومع تزايد المنابر التي تتيح لمنهج لا أدري بالانحسار والحصار تحت وقع وواقع تجاوزات المصابين بشهوة الحضور والكلام والإثارة، يظهر نجوم جدد بوأتهم منصات التواصل الاجتماعي مكانة خداعة تجعلهم يقولون ما لا يفعلون، ويطففون ويزيدون تبعًا لشهوة الحضور وقبلها التزييف والأنا الموغلة في مراتع الغرور والصلف والتكبر، وهنا يبدأ إقصاء من نوع جديد، في سمته وإن كانت مرجعيته الإنسانية واحدة كونه يحاول الاستئثار بالحياة وزينتها ومِيزها، ويصبح هو العين والآخرون بفهمه وإقصائه هم الأثرة والأثر. لا أدري: ليست تخاذلا ولا مثلبة، إن كان سيعقبها كيف ومتى ولماذا؟، وقد تكون سلامة من خطأ يستوجب عقابًا أو رأيًا يوصل إلى ضلال، وفي كل الأحوال تظل مطلبًا، وعند المتعقلين مغنمًا، فهي قرينة للروية وبحكم التراتبية فالأخيرة إرهاص الرأي الذي يراه الحكماء (قبل شجاعة الشجعان)، ومن الرأي تأتي الرؤى والمفاهيم والأفكار الصحية والصحيحة التي تفضي إلى معرفة حقيقية تجمع ولا تفرق تثمر وعيًا ينقل المجتمعات إلى مرافئ الحكمة وشطآنها الوارفة. ** ** - علي المطوع