يحتجُّ منكرو المجاز اللغوي ببعض الحُجج الطريفة، منها قولهم: إن المجاز كَذِب، والكَذِب لا يجوز. وهذا يذكِّرنا بمن حرَّم فنَّ التمثيل في العصر الحديث؛ لأن التمثيل كَذِب، والكَذِب حرام! وهؤلاء لا يفرِّقون بين الكَذِب الأخلاقي والتعبير الفنِّي القائم على التخييل. ومَن بلغ به المقام إلى هذا الدرك، فلا سبيل إلى إفهامه أو جداله. وكيف، وقد نفى البلاغة واللغة، يبقى إلى حواره من سبيل؟! ولا غرو، فهؤلاء لو استطاعوا لنفوا الحضارة البشريَّة برُمَّتها، والطبيعة المحيطة بكاملها، وسُنن الله في خلقه جميعًا؛ لأن لديهم دون كلِّ أمرٍ شُبهةً تجعله منكَرًا، وحَرَجًا يبتدعونه يجعله حرامًا، حتى ما أبقوا لنا من حلالٍ ولا جائزٍ ولا مجاز، سِوَى الموت وارتقاب يوم الحساب! ومن طرفاتهم كذلك احتجاجهم بأن المجاز لم يقل به (الخليل بن أحمد الفراهيدي) وغيره من الرعيل الأول. وهؤلاء المبتدعة من أبناء قرون الانحطاط اللغوي والبلاغي والثقافي والفكري، الذين يحتجُّون بالخليل وأوائل اللغويين، هم في غفلةٍ أو تغافل عن أمور: أوَّلها، أن هذه القضيَّة البدهيَّة لم تكن لتُثارَ لدَى هؤلاء المؤسِّسين لعلوم العربيَّة، كما أُثيرت في عصور الفراغ، والجدل السفسطائي، والمكابرات الجدليَّة المتورِّمة بها أنوف التاريخ الإسلامي في العصور المتأخرة. وثانيها، أن الاحتجاج بالسَّلَف لنفي الخَلَف، ليس فيه من جديد؛ فهو ترديدٌ ببغائيٌّ لحُجَّة أزليَّة قال بها العجزة المنقطعين من عُبَّاد السَّلَف، في كلِّ زمانٍ ومكان، منذ قوم (نوح)، الذين قالوا: {ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِين}. موقنين أنهم بهذا قد أدلوا بحُجَّة بالغة لا تُرَدُّ، فكفَى بالآباءُ حُجَّة، وبالسَّماع عنهم مستنَدًا، لا قِبَل لأحدٍ بدحضه! وثالثها، أن أصحاب مذهب السَّلَفيِّين هؤلاء - الذين لا يفكرون بأدمغتهم التي في رؤوسهم بل بأدمغة آبائهم الثقافيِّين- يعتقدون أن السَّلَف ما ترك للخَلَف من شيء. وتلك عقيدةٌ جاهليَّةٌ توارثوها ثمَّ أَسْلَمُوها. فما لم يجدوا آباءهم عليه من مِلَّةٍ فليس من الحقيقة في شيء، ولا حتى من المجاز. وما أكثر الأشياء التي لم يَقُل بها الأوائل، أو لم تصلنا عنهم. وإلى تهافت الاستدلال بمثل هذا، فإن فيه اختلالًا ذِهنيًّا في تصوُّر المعارف والعلوم، نشأةً وارتقاءً. لكن كيف يُستغرَب مثل هذا الاختلال الذِّهني ممَّن تجدهم يجادلونك أحيانًا بمقولاتٍ تزعم أن العربيَّة كانت لغةَ آدم، فضلًا عن كونها لغةَ الأُمم البائدة، ولغةَ الجِنِّ والملائكة أيضًا؟ وهؤلاء، لا ريب، يعيشون في كوكبٍ آخر، لا علاقة له بكوكب الأرض، ولا بالمعارف التي نشأت عليه، ولا بالتجربة البشريَّة جملة وتفصيلًا. ومَن يتصوَّر مثل هذا لا يقال عنه: إنه لا يعلم، بل الأصح أن يقال: إنه لا يعقل. ومع ذلك فهو واثقٌ بما يقول ثقةً عمياء، لم يدَّعِها قبله من نبيٍّ ولا رسولٍ ولا جاء بها كتاب. ورابعها، أن النفي الانتقائي، زعمًا: أن القدماء لم يقولوا بالمجاز، محض مغالطة. فإنْ صحَّ أنهم لم يقولوا به، فهم لم يقولوا بنفيه. ولو كان أمره لديهم من الخطورة العقديَّة بمكان، لاقتضى ذلك تنبيه الأُمَّة إلى نُكرانه من أوَّل يوم، وكفَى الله المؤمنين المجاز! وخامسها، أن ما زعموه من أن القدماء لم يقولوا بالمجاز هو في النهاية محض افتراء، ألجأهم إليه المِراء. فلقد أشار الأوائل إلى المجاز، وإنْ بمصطلحاتهم العتيقة، كتعبيرهم عنه ب«الاتساع في الكلام» أو «الاختصار فيه»(1). وبذا رأوا رأيهم في فهم بعض آيات القرآن، منذ القرن الأول والثاني الهجريَّين. أمَّا الجهل بضرورات التطوُّر الاصطلاحي، فرديف الجهل بتطوُّر العلوم والآداب والمعارف في الأُمم. والحقُّ- بعد أنفلونزا المجاز، التي وَبَأَت الثقافةَ العربيَّةَ لقرون، وترسَّخت إبَّان عصور الانحطاط اللغوي والأدبي والحضاري- أن اللغة ليس معظمها قائمًا على المجاز فقط، كما كان (ابن جني) يقول، بل اللغة كلُّها مجازٌ في مجاز. حتى ما نظنُّه اليوم حقيقة، كان مجازًا في تاريخ اللغة الماضي، إلى أنْ ترسَّخ وأصبح حقيقةً في تصوُّرنا بعدئذ. إن اللغة مجازٌ متناسل. والإنسان ضحيَّة لغته. ولولا ذلك، ما نشأت جدليَّة المعطِّلة والمشبِّهة نفسها، ولا القول بإنكار المجاز أصلًا. هذا ما يقوله نفاةُ الحقيقة عن اللغة. وقولهم- وإنْ يبدو متطرِّفًا في الاتجاه النقيض لمذهب نُفاة المجاز- له وجاهته، بالنظر إلى طبيعة اللغة ووظيفتها وتطوُّرها. لا بمعنى أنني إذا قلت «شمس» في الوقت الراهن لا أعني ذلك النجم المشتعل المعروف؛ لكن بمعنى أن أوَّل مَن سمَّى ذلك النجم المشتعل المعروف «ش م س» إنما كانت ترتسم في ذهنه لوحةٌ تعبيريَّةٌ نقلها من خلال هذه الأصوات اللغويَّة، ثمَّ من خلال هذه الصيغة الصرفيَّة. واختلاف أبناء اللغات في زوايا النظر والتعبير لا يُسقِط هذه الفرضيَّة. إن اللغة كلَّها، إذن، محض تصويرٍ صوتيٍّ مجازيٍّ عن المعاني الذهنيَّة. يشهد بذلك ما يُعرَف بمحاكاة أصوات الطبيعة (الأُنوماتوبيا ONOMATOPOEIA). وتلك هي الفكرة التي كان ينطلق منها علماء اللغة، من عربٍ وغير عرب، وهو ما لا شأن لمنكري المجاز به، ولكنه مصداق ما قيل قديمًا: مَن دخل في غير فنِّه جاء بالعجائب! «تلك هي الفكرة التي كان ينطلق منها علماء اللغة، (ابن جِنِّي)، و(ابن دريد)، و(ابن فارس)، و(هامبلت)، و(جسبرسن) وغيرهم. وهم- وإنْ بالغ بعضهم أحيانًا في التماس العلاقات بين دوالِّ اللغة ومدلولاتها- لم يعْدوا الحقَّ في هذه الفكرة، مع ما أُثير عليهم من النكير حولها، وما واجهها به (فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure) من الرفض؛ إذ يرى اعتباطية اللغة وأنها لا تخضع لمنطق أو نظام مطَّرد، وأن المؤشرات على المناسبة بين الدالِّ ومدلوله، كأصداء الطبيعة، هي من القِلَّة والاختلاف بين اللُّغات بحيث لا يَصِحُّ اتخاذها أساسًا لظاهرة لغويَّة مطَّردة أو شبيهة بالمطَّردة، فليست أكثر من أصوات قليلة تصادَف أنْ أشبهت أصواتها دلالاتها. لكن قلتها النسبيَّة تلك في اللغات غير الفطريَّة، وكذلك اختلافها بين الشعوب، ليس بحُجَّة لإسقاطها، فضلًا عن أن المناسبة الصوتيَّة بين أصوات اللغات والطبيعة ليست حصرًا في ظاهرة أصداء الطبيعة اللغويَّة، بل هي تدخل كثيرًا- عند التأمُّل- في المناسبة بين ألفاظ اللغة وما تُعبِّر عنه من دلالات غير صوتيَّة. ولا يبدو مقنعًا الزعم بأن هذا الإحساس بالمناسبة بين دوالِّ اللغة ومدلولاتها ليس سِوَى وَهْم يتولَّد عن مكتسبات المرء اللغويَّة وما ينشأ عن ذاك من ربطٍ بين بعض الأصوات ودلالتها، وأن كلَّ لفظٍ يصلح أن يُتَّخَذ للتعبير عن أيِّ معنى من المعاني عند التواضع عليه، وأن لفظ «الشجرة»، مثلًا، لا يحمل ما يوحي بفروعها وجذورها وأوراقها وخضرتها؛ لأن هذا الربط يُدرَك بين أصوات اللغة ومدلولاتها وإنْ لم يسبق للإنسان اكتسابها، وكأنما في الذهن الإنساني مَلَكَة فطريَّة أوَّليَّة كليَّة، تُشبِه مَلَكَة الإحساس بالتعبير الموسيقيِّ وتذوقه، قادرةٌ على إدراك الصُّوَر الصوتيَّة للأشياء وتكوينها. وأيًّا ما يكن الأمر، فيما إذا كانت تلك مَلَكَة فطريَّة أو مكتسبة في الربط الموسيقيِّ التعبيريِّ بين الصوت والدلالة، فمؤدَّى ذلك واحدٌ في النهاية، وهو أن هناك رابطةً تعبيريَّةً بين أصوات اللغة وموضوعاها.» (2) وعليه فاللغة كلُّها قائمة على التصوير الفنِّي، الذي لُبُّ أدواته المجاز الأَوَّلي، بمعنى الرمز التعبيري عن الأشياء. إن العلاقة بين الأشياء والكلمات مجازيَّة ابتداءً. لا نقول اعتباطيَّة كما زعم (دي سوسير)- وكأنه لا يتحدث عن اللغة البَشريَّة، بل عن لغات الطير والنحل؛ إذ نظر إلى اللغة بوصفها مجرَّد إشارات تُدرس سِيْمَوِيًّا- بل نقول إن العلاقة بين الأشياء والكلمات في اللغة البشريَّة مجازيَّة تعبيريَّة، أصلًا وفصلًا. أمَّا العلاقة بين الكلمات والمعاني في تاريخ التطوُّر اللغوي، فشيوع المجاز فيها أمرٌ بَدَهي، مَن نفاه فقد نَفَى اللغة والتطوُّر اللغويَّ في آن؛ من حيث أزهق روح اللغة. وتلك الروح هي ما اصطُلِح عليه: بالمجاز. لولا المكابرة المُؤدلجة- التي أعيت من يداويها- ما خطر في ذهنٍ غير هذا. وإذا كان هذا هو الشأن في اللغة بعامَّة، فكيف باللغة الأدبيَّة بخاصَّة؟! إن اللغة الأدبيَّة لا قيام لها إلَّا بانحرافها عن اللغة التواصليَّة. وإنَّما المجاز مظهرٌ واحدٌ من مظاهر الانحرافات اللغويَّة والأسلوبيَّة التي تمنح النصَّ الأدبيَّ هويَّته. فإنْ هي أُنكِرت، فقد أُنكِرت أدبيَّة الأدب. وإذا أُنكِرت أدبيَّة الأدب، فقل على بلاغيَّته السلام! ... ... ... (1) انظر مثلًا: سيبويه، (1988)، الكتاب، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 212. (2) انظر كتابي: (1996)، الصُّورة البَصَريَّة في شِعر العُميان: دراسة نقديَّة في الخيال والإبداع، (الرِّياض: النادي الأدبي)، 301- 302 . *(الأستاذ بجامعة الملك سعود، بالرِّياض) [email protected] https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify http://www.facebook.com/p.alfaify http://khayma.com/faify