كان يحلم دائمًا بأن يكون قاصًا. كلَّما قرأ مجموعة قصصية وأعجبته، جعل نفسه مكان مؤلفها، وشعر بنشوة لم يعهدها من قبل. حاول كثيراً أن يكتب قصة، وكل محاولاته كانت تبوء بالفشل. كتب مرة بداية قصة في أدب السجون، كانت تتحدث عن أشخاص عدة قاموا بالتخلي عن سيدهم، وكان يجب أن ينالوا العذاب في السجن لفعلتهم المشينة، لكنه توقف عن الكتابة في أحد المشاهد لسبب لا يعرفه، ولم يدر ما الخطوة التالية، وإلى أين ستمضي القصة، ولماذا كلَّما قام بتعذيب إحدى الشخصيات، انتابه ألم في داخله، وشعر بأنه محاصر في سجن انفرادي. أصابه الحزن جراء عجزه التام عن إنجاب قصة، وما كان ليستطيع أن يعيش مع كل هذا الألم، لولا الشعر الذي هبط عليه مثل وحي، وصار يخفف عنه ويواسيه. كتب قصيدة عن شاعر لم يكف عن انتظار اللغة التي لن تأتي أبدًا. كتب قصيدة أخرى عن تمنع الاستعارات، وقصيدة عن خيانة فكرة وعدته أن تهبه نفسها لكنها ذهبت لغيره. وكتب مرة قصيدة طويلة، تسرد معاناة رجل يشعر بالفقد لشيء لم يمتلكه يومًا؛ فن القص. ومثلما يتوقف المطر فجأةً عن الهطول، انقطعت القصائد عنه، وباغته الجفاف. لم يكن يظن أنه كان محظوظًا حتى هجره الشعر. شعر بالهلع، وتمنى لو كان بمقدوره أن يكتب جملة واحدة فقط. صار يهجس بالكتابة، مثل أمٍ فقدت ابنها الوحيد في الحرب، وراح ينتظر لحظة انثيال الكلمات، مثلما ينتظر اليائس لحظة موته. كان يشعر أن ثمة آخر بداخله، كان يملي عليه ما يكتبه، والآن لا يعرف لماذا أصابه الخرس. لقد توقف عن الكتابة، لكن شعوره بالعجز لم يتوقف. كلَّما قرأ، شعر بالغصة، كأنه فقد إحدى حواسه، ولم تعد الحياة الآن مثلما كانت عليه. مضت أيام طويلة وهو يحدق في شاشة حاسوبه اللوحي، دون أن يكتب حرفًا. وأثناء تحديقه المستمر، تراءت له صورٌ ورؤى وهلوسات، أزرق أحمر أصفر أخضر، الألوان كلها، ثم طغى البنفسجي على كل ما يراه، وشيئًا فشيئًا، شعر بشيء حقيقي يتحرك أمامه لونه أبيض، فتح حدقتي عينيه بشدة، رغم تعبه العارم، ورأى في تلك الأثناء، شخصيات غريبة في حالة يرثى لها، ينشدون الخلاص. كان مبهوتًا إزاء تلك الرؤى، وشعر بحكة خفيفة في رأسه، ودغدغة أخذت تسري في سائر جسده، وصوت طنين يغوص في أذنيه، وكان قلبه يخفق بشده مثل حيوان مذعور، وأدرك عندها، أنه في لحظة تجلي. حاول أن يجاري ما كان يراه، وبدا في تلك اللحظة، مثل فنان يتأمل ما هو أمامه، ويرسم دون أن يلقي نظرة علىوحته. ثم أطبق عليه ظلامٌ دامس وانطفئ. نام دون أن يشعر بنفسه أثناء كتابته. ورأى في منامه، تلك الشخصيات التي حاول وصفها، غير أنها في الحلم، كانت مسجونة، وتهمس له أن يفتح الباب. وفي الحلم، كان مترددًا، لا يعرف هل يفتح لهم الباب، أو يتركهم ويمضي. وهاتان الرغبتان تتصارعان بداخله. ثمة ما يحرضه لفتح الباب وما يمنعه عن ذلك في آن، وفي اللحظة التي تتلمس يديه القفل، يتلاشى الحلم ويستيقظ. أخذ يتكرر عليه هذا الحلم الغريب الذي لم يستطع أن يفسره بعد. ثم بدأ بتدوينه. وعندما حانت اللحظة التي يتحسس فيها القفل، كان ينز من جسده العرق، وخيل إليه أنه سوف يستيقظ الآن، لكنه لم يكن نائمًا، وفيما كان يدير المفتاح في القفل، شعر أن الكتابة يمكن لها أن تفتح كل الأبواب. لكنه توقف بغتة، كأنه أدرك فداحة ما هو مقدم عليه. فكّر قليلاً فيما سيفعله، ثم سمع صوتًا في رأسه يقول له: _ يا جبان ألن تفتح؟ تردد طويلاً في الإجابة. كان مرتعبًا للغاية. _ ما سبب سجنكم؟ _ هذا السؤال لك! _ لم أفهم. _ أنت من صنعنا. نحن أفكارك. حاول إقناع نفسه أن ما يسمعه الآن لا يعدو كونه سوى مجرد وهم. لكن الشك كان دائماً ما يجد ثغرة ليتسلل إليها، فلو كان وهمًا، لما شعر بكل هذا الرعب. هذا رعب الحقيقة. قال في نفسه. ثم سأل الصوت الذي في رأسه: _ لماذا أنتم في السجن؟ _ يا لذاكرتك البائسة! تصنعنا ثم تنسانا، لقد أخبرتك من قبل أن هذا السؤال لا يمكن لأحد الإجابة عليه غيرك. تنهّد. نظر إلى حاسوبه، ووجد أنه قد كتب الكثير، دون أن يدرك كيف حدث هذا. قرأ حوارًا كان قد أجراه مع إحدى الشخصيات المسجونة، والتي قالت له، إنهم مجرد شخصيات متمردة، لا تكتفي بأن تكون مجرد شخصيات في قصة. ولكن حتى يخرجهم من السجن، كان عليه أن يعيد كتابتهم، ويجعل منهم أقوياء وماهرين، إلى الحد الذي لا يستطيع فيه أحد أن يقبض عليهم، أو يقتلهم. ********** في طفولته البعيدة، كان يميل إلى الصمت والرسم في كراسته. لكنه شعر بحاجة إلى صحبة من نوع آخر، شيء يفعله ويعوضه عن وحدته، فرسم شخصيات عدة، اختار لهم أسماء، وجعلهم أصدقاءً له. وكل يوم قبل أن ينام، كان يفكر فيهم، حتى إنه يحلم بهم، ويشعر أنهم أقرب إلى الحقيقة. وفي أحد الأيام، لم يستطع النوم. طلعت الشمس وهو ما زال يقظًا. شعر بملل فظيع. تقلب على سريره كثيراً، ثم سمع صوتًا يناديه بهمس، وشعر برغبة عارمة للذهاب إلى مخدعه، وإخراج كراسته من حقيبته، حيث كل الشخصيات التي لا تشعره بالوحدة أبدًا. وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه يقلّب كراسته التي كانت واضحة، بفعل أشعة الشمس التي تتسلل إلى الغرفة من النافذة، ثم دخلت والدته، ووبخته ذلك اليوم، وحملته إلى السرير، ولم يجد الوقت حتى كي يغلق كراسته ويضعها في الحقيبة. عندما استيقظ، وجد كل الصفحات فارغة. صفحات بيضاء لم يمسها السواد بعد. لقد غادرت الشخصيات الصفحة. كم شعر بالخذلان حينها، وبدا له أن قلبه يسقط في هاوية لا قاع لها، حتى سمع صوت ضحكة. التفت ووجد إحدى الشخصيات! ثم ظهرت كل الشخصيات تباعًا. وعاد قلبه الصغير إلى مكانه. خاض الكثير من المغامرات معهم، وفعلوا الكثير من الأشياء المجنونة، لقد كان يتمرد معهم على كل شيء، هو الذي لم يكن ليقول «لا» في حياته كلها، صار أشبه ب «نعم» لكل أشكال التمرد. علموه ألا يرضى بما لديه، وألا يستمع لكل ما يقال له، جعلوه شخصية أخرى. توطدت صداقتهم، ولم يستطع تخيل الحياة بدونهم. ثم جاء ذلك اليوم الذي تغير فيه كل شيء. كان في المدرسة، وقد اتفق مع شخصياته أن يساعدوه على الهرب أثناء الفسحة. لم يكن صبيًا مشاغبًا، لكن رفقته مع المتمردين جعلته يفعل كل الأعمال المشاغبة. وكان يعجبه أنه يحظى بكل هذا الدعم منهم. أخبرهم من قبل أنه سيكون أول من يهرب، وحاولوا في البدء مساعدته، لكن حارس المدرسة كان قد رأى الفتى وهو يتسلق الجدار مثل عنكبوت، وحينها أدرك الفتى أنه قد كشف أمره، وستتم معاقبته جراء ذلك، لكن ليس هذا ما كسر قلبه في الحقيقة، ما حطمه تماماً، أن الشخصيات قد هربت وتخلت عنه. لقد نظر إليها بعينيه التي امتلأت بالدموع حينها، وهم يفرون دون أن ينظروا نحوه ولو لمرة أخيرة. أصابت ذلك الطفل صدمة كبيرة. وبعد فترة طويلة، حاول أن يرسم مجددًا، لكنه لم يكن يستطيع سوى الخربشة. ********* وها هو الآن، بعد أكثر من عشرين سنة، شرع يكتب أقدارهم من جديد. لقد اندلعت الكلمات منه، ولا أحد بمقدوره أن يوقف كل هذا الطوفان. وعندما انتهى، أدرك أن الكتابة عمل شاق لكنه مريح. نام وحيدًا في تلك الليلة، لكنه عندما استيقظ لم يكن كذلك. ثمة ما يثقل صدره، وجد أن كل الشخصيات القديمة أصبحت بداخله، ولا يعرف كيف استطاعت الولوج إليه. لم يكن الأمر عاديًا، لقد تلبسّه الخوف، ولا يدري كيف يمكنه أن يتخلص منهم. الحل هو الكتابة مثلما هي المشكلة. هذا أول ما تبادر إلى ذهنه، أخذ إحدى الشخصيات وكتب عنها قصة، وحين فرغ منها، شعر بالخفة، لقد أسقط شخصية. ابتسم، وراح يكتب قصصًا عن كل الشخصيات كي يسقطها تباعًا، وحتى يعود وحيدًا مثلما كان. الوحدة ليست سيئة، هذا ما تعلمه من الكتابة. وحين فرغ من كتابة القصص كلها، كان خفيفًا ووحيدًا ويشعر بنشوة لا مثيل لها. نام من شدة التعب ولكنه عندما استيقظ وجد أن كل الشخصيات متراكمة خلف قفصه الصدري. انتابه غضب شديد، وأدرك أنه ما كان عليه أن يصنعهم من البداية. كان يختنق بسببهم، ولا متنفس لديه غير الكتابة. قرر أن يقتلهم جميعًا في قصة واحدة. أخذهم في رحلة بحرية، ولأنهم لا يجيدون السباحة، جعل من القارب الذي يحملهم ينقلب رأسًا على عقب. شعر بمتعة وهو يراهم يغرقون. لكنهم سبحوا واستطاعوا النجاة. لا يعرف كيف تطورت شخصياته بهذه السرعة، شعر بالهزيمة. لكنه لن يرضى بتمردهم عليه، فهو من صنعهم. بدأ بوصف حوت كبير، وجعله يشعر بالجوع كي يلتهمهم، لكن الحوت تمرد معهم. توقف عن الكتابة غاضبًا. اللعنة. كيف تمرد عليه كل شيء. كان يكتب بسرعة فائقة، صنع قوات مسلحة، ونزع منهم صفة التمرد، وجعلهم مثل كلاب مطيعة لا يمكن أن تعصي أمرًا. وأمرهم بإطلاق النار على كل المتمردين. مات الحوت بسبب كثافة الطلقات التي اخترقته. لكن الشخصيات لم تكن تتأثر بالطلقات. خارت قواه، ونام على حاسوبه. وحين استيقظ، شعر أنه قد وجد الحل أخيراً. لقد علم الآن كيف يتخلص من كل هذه الشخصيات التي أفسدت عليه حياته. تذكّر أنهم كانوا ليبقوا في كراسته عندما كان طفلاً لولا أنه نسي أن يغلقها. هكذا إذًا. عليه أن يطبع كل القصص التي كتبها عنهم، لأنه عندما يفعل ذلك، يصبح حينها كل ما كتبه ليس ملكًا له، بل لكل من يقرأها. بعد شهر، أصبحت مجموعته القصصية «المتمردون» بين يديه. كان قد طبع نسخة واحدة تجريبية، وأراد أن يفتح الكتاب كي يتحسس اللمات ويشعر بإصداره الأول، لكنه خاف من أن تعود إليه الشخصيات. وانتابه قلقٌ فظيع. أخذ كتابه إلى مكان لا يوجد به أحد. أخرج عود ثقاب، وأشعل النار فيها. صوت احتراق الورق، كان في أذنه مثل الموسيقى. وعندها، سمع أصواتاً كثيرة تستنجد باسمه، ولوهلة، شمّ رائحة دخان تخرج من مسام جلده، وشعر بحرارة شديدة في صدره. ** ** - فيصل خرمي