ينهض مشروع الدكتور عبدالله الغذامي النقدي محاطًا بثلاث مكاشفات أساسية تتجلى بشكل هرمي متواتر، يمكن إجمالها في ثنائيات متصارعة ومتعاكسة ينتج عنها انقلاب نوعي في المعطيات والقراءات السابقة، وهذا ما نلاحظه في ثنائية العمودية والنصوصية والفعل الإبداعي الخارج من أروقتها وما تتبناه من حمولات الحرية والانطلاق والتصرف ثم إلى النسق الثقافي. وابتداء حاول الغذامي أن يؤطر للإبداع الشعري من خلال ما يسمى بالعمودية والنصوصية، بين النص الذي يطمئن لعمود الشعري العربي في أنماطه المتفق عليها عند علماء النقد العربي، وبين النصوصية التي تشكلت أوردتها على أعقاب العمودية وحاولت التمرد والانفلات، على قدر حفاظها على الهوية العامة التي تتصل بها من نواحٍ مختلفة. والغذامي بين المفهومين ينتصر للنصوصية، ويرى أن الأدبية للنص تترجم فيها، فيما يتقيد الإبداع حين يسيّج الشعراء في قيود العمودية التي تعد انتصارًا للأشياء الظاهرة على حساب الجوهر الإبداعي. وكلما بدأ النص يأتي بالمختلف والمدهش كان أكثر إيمانًا بالإبداع. والمكاشفة الثانية تنطلق في تبيان الفعل الإبداعي المستقى من تلك الثنائية، فالعمودية تعني سجن الإبداع والثبات والرجوع والإيمان بالمعنى الأحادي الضيق، وكثيرًا ما تتحقق في نصوص البحتري الذي يتجسد في التقليد والمشاكلة، وأما النصوصية فهي النص المختلف الذي ينطلق في سماء الإبداع ويتناهى في فضاء المعاني، ومتى وصلت إلى معنى جديد تجدد إلى المعنى الآخر في متواليات مستمرة، فأنت بين نصيب وافر من التجاذبات الإبداعية والآفاق المعرفية، الشيء الذي يتحقق بداهة في شعراء كأبي نواس وأبي الطيب المتنبي. والفعل الإبداعي هو بؤرة رؤيوية لما يحدث في الشعر والنقد الحديث فالصوت التقليدي روح العمودية والصوت الحداثي تتراءى قيمته في النصوصية. والمكاشفة الثالثة تأتي في تهميش العمودية والنصوصية - في قراءة تعد مرحلة للمراجعة والمحاسبة -وذلك لكونها تؤسس معنى الانتهازية الواحدة التي تشرع في تظلل المعنى وتعميم الفحولة والنموذج التاريخي، في ظل غياب المهمش والظل والأنثى، وبالتالي تظل قيمة الانفتاح الشعري تدور في مستودع مغلق ما ينفك من المقاييس والأحكام التي تحاول تسييج القصيدة. ولهذا تنتقل المعادلة من مواجهة الفعل الإبداعي إلى النظام الإبداعي، وكسر الذهنية التي أفهمتنا أن الحداثة الشعرية باب التجديد والانصهار في المنتج المتحرر من القيود والأنماط، وهذا ما يقود الغذامي أن يرى أدونيس ونزار قباني وسعد الحميدين من أرباب الخطاب العمودي الرجعي المؤسس على ثقافة مغلقة. والمتأمل فيما تقدَّم يجدها خلاصة مهمة في مشروع الغذامي النقدي، الذي يبدأ من الاطمئنان للنقد الأدبي إلى التنكر له، ومن فضاء الإبداع المسكون بالجمال إلى كسره، وإلى الإيمان بالمنجز الثقافي الذي يراه منجزًا حضاريًا يكشف عيوب النسقية المهيمنة التي تحاول أن تبرز الجمالية وتغتال ما دون ذلك، وتأسس لعالم يهمش الآخر، ويجسد عالمًا معرفيًا صنميًا، لا يحيد عن فكره بل يتباهى بعيوبه المضمرة. ** ** **