ينتابك فرح طفولي وأنت تقرأ نصوصاً شعرية بينك وبين صاحبها إلف ومحبة. تشعر حينها بأنك كاتب النصوص، لأن جمالياتها تتقاسم مع جماليات أنت تصنعها مع كل قراءة إبداعية موازية تشتغل عليها!! سأكتب هنا عن تجربتي القرائية في ديوان شعري صدر حديثاً 2018م - 1439ه، بعنوان «تفاصيل الفراغ» للشاعر الأنيق/ الصديق أحمد قِرَّان الزهراني، وهو من منشورات نادي الرياض الأدبي والمركز الثقافي العربي. قلت إنها «تجربة قرائية» وليست «قراءة نقدية»، وأعني بها محاولة للاقتراب من النَّص الشعري الذي أتثاقف معه وأضفي عليه بعض المفاهيم والدلالات التي قد تتلاقى أو تتماهى مع مقصديات المبدع الشاعر وغاياته الشعر/ فكرية!! * * * (2) في البدء تقودنا عتبة (الإهداء) إلى أيقونة (المرأة) أو النسوة أو الأنثى التي يقوم عليها الخطاب الشعري في هذا الديوان. يقول في الإهداء: «إلى كل النساء منذ أمنا حواء.. إلى بناتي: وجدان.. شيماء.. أسماء. أنتن كل المجتمع.. كل الحياة.. «لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم». وفي هذا البيان الأولي نجد «كل النساء» ولكنه يكسر تلك (الكلية) التي كانت تحمل امتدادها النسوي إلى ما لا نهاية، بتأطيره وتحديده «منذ حواء إلى بناتي.....» فتنحصر النسوية فيما بين حواء أمُّنا وأم الجميع إلى بنات الشاعر فقط!! إن (حواء) تخرج من دائرة (البنات) و(الأخوات) إلى دائرة (المرأة، الزوجة، الأم، الأنثى) فقط فليست هي (بنت) لأحد!! وليست - كذلك - (أخت) لأحد!! أما (بنات الشاعر) - الحد الثاني النسوي الذي أوقفنا عنده الإهداء فهن (بنات وأخوات وربما زوجات وأمهات)، وبذلك فهن يفتحن باب النسوية المهدى إليهن الديوان إلى ما لا نهاية، ويخرجن بنا خارج التأطير النَّصي الذي أوقعنا فيه خطاب العتبة الإهدائية!! بهذه (العتبة) ومنها، تسير (التجربة القرائية) باحثة عن تشظياتها داخل المتن الشعري، حيث وجدناها تتشظى في أربع مدارات دلالية على النحو التالي: المدار الأول: ضمير القول (قالت، نقول، تقولين) المنبثة في بعض القصائد، وفيها دلالة واضحة على الأنثى/المرأة: «قالت: تركتك تستبين علامة التنصيص أين مكانها في المعجم الحرفي؟ لا تستخدم التأويل دون تقصد النجوى * * * قالت: تنبه حين تكتب فثم الحزن يسكن فيك لا تعبر إلى أقصى القصيدة» نص تأويل ما لم يكتب ص 11-16 وفي مكان آخر: «تقول: إذا ما تراءت لنا عتمة الليل هيئ كتاباً نسجل فيه انفعالاتنا من قدوم الأخلاء، هيئ لنا منزلاً في الخلاء على علة الوقت نمضي إليه وهيئ شموع اللقاء الأخير، * * * تقول: ابتدأنا نرق لمن عاتبونا على أننا لم نرد السلام» نص تاج الكلام ص ص 21-24 وفي مكان ثالث: «كأني أراك تؤوبين من وطن في المجاز * * * حين تقولين: هذا كتاب صفيٌّ بقدس سر الخصوبة خذ ما تبقى من الوعد» نص نسوة في المدينة ص ص 29-43 في هذه المقتبسات، يلاحظ القارئ تلك الحوارية بين الشاعر والأنثى/ الرمز، حيث يكون وجودها كلياً لا جزئياً، إنها امرأة، ناهية لها الفعل وللشاعر ردة الفعل! (انظر ما تحته خط). المرأة هنا لا تأتي للشكل الجمالي فقط ولكنها ذات عقل ورؤية ونبوءة، ولذلك يصطفيها الشاعر ليقيم معها حوارية باذخة من نوع ما!! المدار الثاني: المفردات الدالة على الأنثى/ المرأة سواءً الدلالة الحقيقية كما في قوله: «صوت الأم حين الخوف * * * في صورة الأنثى وفي وسم الطفولة» نص مقامات ص ص 49-53 وفي قوله: «وكن جميلاً معهم كما تحب أن تراك فتاة مغرورة * * * ولا تبعثر أسماء النساء وأنت على سريرك مقوس الظهر» نص وصايا ص ص 55-57 أو الدلالة الضمنية كما في قوله: «ربما الآن يحلو الحديث عن الحب عنها بكامل زينتها وتفاصيل أشيائها المرتجاة عن الطرحة ال وضعتها على شعرها الكستنائي والكحل يسكن عينين من لازورد * * * طعم عينيك أشهى قليلاً من الحب ولا صوت للعطر إلا على شفتيك * * * ضحكتك الغضة المشتهاة نص محاكاة ص ص 59-66 من هذه المقتبسات تتجلى المرأة في دلالاتها الحقيقية (الأم، الأنثى، النساء، الطفولة، الفتاة المغرورة). وفي دلالاتها الحسية /المعنوية/ الضمنية من خلال الإشارات الدالة والمعبرة (الطرحة، الكحل، الشفة، الضحكة، العطر)، وهنا تبدو المرأة/الأنثى، المرأة/الجمال، المرأة/الإثارة!! المدار الثالث: الخطاب الموجه إليهن/ النساء بوصفهن كائن غيري يتماهى معهن الشاعر قرباً وبعداً، كما نجده في قوله: «سلام عليكن في البدء مثل السلام عليكن في المنتهى سلام عليكن.. ما قبل البدر وجه النهار * * * موقن أنك ن ستدنين منِّي وتكتبن أسماءكن الجديدة * * * فلستن مثلي ولست أنا من يعير الكتاب إلى غيركن..» نص مطر هارب في الرمال ص ص 69-72 وبوصفهن عطاء لا محدود لمن هو «بعض وبعض»، «بعض وكل» «كل وكل» وهذا رمزية للأم/ الوالدة التي تتشكل منها الحياة. كما نجده في قوله: «آن أن يرحل الآن مصطحباً روحها ومفاتيح أشجانها * * * آن أن يترك الآن رائحة في زوايا المكان الأثير لها مسبحة نسجتها يداها وهو في المهد أهدته في عيد ميلاده * * * يخلق كالنور في عينيها وترى فيه يوسف... وآدم... وكل النبيين وترى صورة للملاك * * * هو كل وكل.. إن يغب تغرب الشمس والليل لا يستلذ النجوم * * * نص زوايا الظل ص ص 73-76 في هذه المقتبسات تبدو المرأة/ الأم في تجلياتها الطبيعية كأم رؤوم تصنع المعجزات من أجل ولدها ليصبح (الكل والبعض والملاك). كما تبدو المرأة/ الأنثى في حالتي البعد والقرب من الذات الشاعرة. المدار الرابع: النعوت والأوصاف الجغرافية فهؤلاء نساء المدينة، وتلك نسوة القرى، وآخرهن الحجازية. وفي هذه الأجواء الوصفية عن نساء المدن والقرى يقول: «كثير نساء المدينة يمكرن أكثر من غيرهن يعاتبن أكثر من غيرهن ويعشقن أكثر أكثر * * * وعن نسوة لم يجدن كساء الشتاء وعن بائعات الخضار اللواتي قدمن من الريف» نص نسوة في المدينة ص ص 29-43 وعن المرأة الحجازية يقول: «حجازية قالت البحر صورة وجهي ولون عيوني التي لا تراك سوى ومضة في الزجاج حجازية يستعيذ النهار بها من جفاف القرى لا تماري ولا تستكين * * * نص حجازية ص ص 77-79 وبهذه النعوت والوصوف تتشكل المرأة كائناً جغرافياً له سماته المنبثقة من الواقع، والمتنامية في الخيال والأسطورة حيث «وجه فينوس» رمز الحب عند الرومان. عبر هذه المدارات الأربعة الدلالية تكمن أنثى الشاعر وتجلياتها المتعددة عبر اللغة الشعرية، والصورة الإبداعية، والفضاءات النصيَّة التي يتكئ عليها هذا الخطاب الشعري. ... ... ... - د. يوسف حسن العارف