كثر القتلة الخارجون عن القانون, بالغ السارقون المارقون عن الجادة, انتشر المسرفون المبالغون في التجاوز, عمَّ الهاتكون السُّتر, الموغلون في شِعاب البيوت, والمتسلِّقون جُدُر الغافلين طرفة العيون.. «يا له من وقت جُنَّ فيه الناس, فضلاً لا تقرأوا لي شيئاً عنهم, لا توصلوا إليَّ أخبارهم, لا تطلعوني على صورهم, احجبوا عني كل هذا, مشاعري جرحوها, أفكاري شوشوها, خلطوا الذي أعرف, والذي أوقن فيه, والذي اعتدته من السلام, والأخلاق, والجمال بالذي لا أحتمل».. وأجْهَشَتْ في مكانها باكية... امرأة في العمر قد بلغت أوجَه, ومن القيم النبيلة ما تحمله فكراً, وحساً, وسلوكاً, وتعاملاً, وتبادلاً مع الناس, فإذا بأصغر من يدب في بيتها, يحمل إليها مع شهقة الصبح, وزفرة الليل, وقيلولة الضحى, ونشور ما بعد العصر من أخبار القتل, والاعتداء, والفساد, وسوء الأخلاق, والسطو باليد, واللسان, والفعل, بالصورة الناطقة المتحرِّكة وغير ذات الصوت, يأتونها بأنباء البشر فوق الأرض التي تدب عليها, وعن بعد يصلها لعقر دارها بوخَمِه, يهبط عليها كما أسراب الجراد تنخر في دخيلتها كما تنخر ورق الأشجار, تطوح بها كما الريح العاتية, تجثم على صدرها ككابوس لا تنفك من خنقه.. إنها تستجدي كل الذين يأتونها في خميلة نقائها, وسكينة طمأنينتها بكل هذا أن يقيموا بينها وبين هذا الطمي البركاني بحممه الحارقة جُدُراً سميكة: «لا تقرأوا لي شيئاً من هذا, لا تروني أفعالهم, لا تتحدثوا جواري عنهم, لا تخبروني بأفعالهم, دعوني في بقعة الطهر, في خميلة الأحلام, في عالمي النقي حتى أقضي».. * * * السطور التي قرأتم سادتي نقلتها حرفاً, ومعنى عن لسانها, امرأة لا تقرأ ولا تكتب, بيضاء الجنان, خضراء المكنون, لم تحتمل أخبار الابن القاتل أبيه, ولا الأم الجائرة بأبنائها, ولا الشِّرير الحارق عربة الفتاة, ولا الزوج القاتلة زوجها, ولا المستشري فساده بالصغار, امرأة يأتيها أحفادها بين آونة وأخرى بنقل عن كل ذلك لتشاهد فترفض, ولتسمع فتبكي, ولتعلم فلا تصدق.. لا تزال نبتة خالية من أمراض العصر, بل من ضعف اعتراهم أكثر ما اعتراهم في هذا العصر.. كنت في زيارتها, فسألتني: أيعقل أن يكون الناس على هذا الجور من الفساد؟! قلت لها: لا تألمي, فالإنسان منذ قابيل وهابيل, ومنذ عصى الشيطان ربه هو الإنسان, إنهم البشر.. أما الذي استجد يا سيدتي فإنه هو هذا النقل المباشر لكل نَفَس يصَّاعد بأفعاله!!..