من أهم المعيقات التي تسهم في صعوبة التأريخ للدراسة اللغوية العربية التضارب في المعلومات التي تقدمها المصادر المبكرة عن عمل النحويين واللغويين القدماء في تدوينها وتقعيد نحوها. فهي تورد المعلومة ونقيضها، والمعلومةَ التي ينقضها عمل النحويين واللغويين أنفسهم. ومن أمثلة ذلك الأخبار الكثيرة عن نشأة النحو والكيفية التي وضع العلماء الأوائل الخطوط العامة له وللدراسات المتصلة به عموماً. يضاف إلى هذا غموض الصورة التي تنقلها تلك المصادر عن وضع اللغة العربية في الجاهلية والفترة المبكرة من تاريخ الإسلام، كما رأينا في المقالات السابقة. وكنت أوردت مثالاً واحداً عن إسهام تلك المصادر في تأسيس هذا الغموض. وهو نص الفارابي الذي يحدد القبائل التي أُخذت منها نماذج اللغة العربية الفصحى. وهو نص ينقضه ما تورده المصادر النحوية واللغوية من احتجاج العلماء الأوائل بنماذج الفصحى من مناطق مختلفة، ومنها المناطق التي حدد نص الفارابي أنهم لم يأخذوا منها. ومن المقولات الأخرى التي أضفت ذلك الغموض القولُ الشائع الذي أشرت إليه في المقال السابق الذي يؤكد أن اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش. وهي المقولة التي ينقضها، كما رأينا، استشهاد المصادر المبكرة بنماذج من الفصحى أخذت من مناطق بعيدة عن مكة أكثر مما أخذته من متكلمي العربية في مكة. ومن المقولات التي تسود في الدراسات العربية أن سيبويه هو واضع علم النحو كما يتمثل في كتابه الذي يبدو مكتملاً من حيث تناوله للأنظمة اللغوية الرئيسة: النحو والصرف والأصوات. وهو ما أسهمت في ترسيخه بعض المصادر اللغوية المهمة التي وضعها كبار اللغويين العرب بعده. ومن النصوص اللافتة للنظر التي تجعل سيبويه كأنه المؤسس الوحيد للنحو لم يسبقه أحد قول ابن جني في كتابه الخصائص مدافعاً عنه مبيناً أخطاء سابقيه وقصورهم، ومنهم بعض شيوخه كالخليل بن أحمد، وأخطاء ناقديه. يقول تحت «باب القول على فوائت الكتاب» (لسيبويه):«اعلم أن الأمثلة المأخوذة على صاحبه (سيبويه) سنذكرها ونقول فيها ما يدحض عنه ظاهرَ معرَّتها لو صحتْ عليه. ولو لم تكن فيها حيلةٌ تَدرأ شناعةَ إخلالِه بها عنه، لكانت مَعْلاة له لا مَزْراة عليه، وشاهدةً بفضله ونقصِ المتتبع «له بها» لا نَقْصِه، إنْ كان أوردها مُريدًا بها حطَّ رتبته، والغضَّ من فضيلته. وذلك لكُلفة هذا الأمر (وضع النحو) وبُعْد أطرافه، وإيعار أكنافه أنْ يحاط بها، أو يشتمل تحجُّرٌ عليها. وإنَّ إنسانًا أحاط بقاصي هذه اللغات المنتشرة، وتَحجَّر أَذْراءها المترامية، على سعة البلاد، وتعادي ألسنَتها اللِّداد، وكثرةِ التواضع بين أهليها من حاضرٍ وباد، حتى اغْتَرق جميعَ كلام الصُّرحاء والهُجناء، والعبيد والإماء، في أطرار الأرض، ذات الطول والعرض، «ما بين» منثور إلى منظومٍ، ومخطوب به «إلى مسجوع»، حتى لغات الرعاة الأجلاف، والرواعي ذوات صرارِ الأخلاف، وعقلائهم والمدخولين، وهُذاتِهم الموسوسين، في جِدِّهم وهزلهم، وحربهم وسلمهم، وتغايرِ الأحوال عليهم، فلم يَخلُل من جميع ذلك -على سعته وانبثاثه وتناشره واختلافه- إلا بأحرف تافهة المقدار، متهافتةٍ على البحث والاعتبار -ولعلها أو أكثرها مأخوذة عمن فسدت لغته، فلم تلزم عهدته- لجديرٌ أنْ يُعلَم بذلك توفيقُه، وأن يُخلي له إلى غايته طريقُه. ولنذكر ما أورده عليه معقباً به، ولنقلْ فيه ما يحضرنا من إماطة الفحش به عنه بإذن الله» (الخصائص، ج3، ص ص 185187). ولو كان هذا النص دقيقاً في تصويره لعمل سيبويه لترتب عليه التسليمُ بأن سيبويه هو من جمع متن اللغة، وهو الذي جاب أكناف الجزيرة العربية ليأخذ اللغة من المرأة والرجل والعاقل والمجنون والغني والفقير، ولم يفته إلا القليل التافه منها، وأن كتابه يخلو من العيوب من حيث التحليل أو من حيث صحة المادة اللغوية وفصاحتها وبعدها عن النماذج اللغوية «الفاسدة». لكن هذا النص يخالف ما تقوله المصادر المبكرة كلها، وعلى رأسها كتاب سيبويه. فهي تؤكد أن الكتاب إنما يمثل المحطة الأخيرة في التأسيس لعلوم العربية اللغوية والنحوية. ويؤكد ذلك أنه لا تخلو صفحة تقريباً في الكتاب من الرواية عن شيوخه المباشرين، كالخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب وعيسى بن عمر، وغيرهم. بل إن فيه إشارات إلى «نحويين» لم يسمِّهم يبدو أنهم عاشوا في فترة متقدمة جداً عن زمنه. ولو أخذ نص ابن جني على علاته لألغى تاريخاً طويلاً من التأسيس للنحو والدراسة اللغوية بعامة. وليس انتقاصاً من سيبويه أن يكون مسبوقاً بأعلام عملوا على إدخال التنسيق على المادة اللغوية الهائلة التي تعاملوا معها، واكتشفوا المبادئ النحوية الكبرى والأطر الرابطة بين الظواهر التي لا يبدو للنظر الأول أن بينها صلة. ويؤكد عمق التحليل وغزارة المادة اللغوية في الكتاب أن هذا العمل ثمرة لقدرة هائلة على النظر وراء المادة اللغوية للبحث عن المبادئ العامة التي تثوي وراءها والقوانين المتشابكة الحاكمة لها، وكذلك القدرة على وضع ذلك كله في إطار نظري متماسك. ولا يصمد نص ابن جني التمجيدي لسيبويه أمام الأخبار التي تروى عن جهود سابقيه الذين ربما يصح وصفهم بأنهم هم المؤسسون الحقيقيون للنحو. ولا ينقص من قدر سيبويه أن يكون مسبوقاً في العملية الطويلة لتأسيس النحو. ويكفيه إسهاما أنه جمع شتات النحو في كتاب متماسك شامل لأطراف الأنظمة النحوية الثلاثة. ولم يكن عمل السابقين على سيبويه سهلاً، ولم يحدث بين ليلة وضحاها، ولم يكن عمل فرد. وقد تضمن ذلك العمل اختيار نماذج وإزاحة نماذج أخرى وتصنيفها بين الشاذ والقليل والخاص. ويصور هذا العمل العلمي بامتياز ما يرويه ابن نوفل قال: «سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله، فقال: لا. فقلت: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. وقول أبي عمرو بن العلاء أيضا: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا القليل». ومن المؤكد أن هذا القول لا يعني أن أبا عمرو وحده هو واضع العربية، بل ربما لا يزيد عن كونه إحدى المحطات الأخيرة قبل سيبويه التي شهدتْ التنظير للمتن اللغوي وتأطيره في مقولات وأصناف وأبواب. ويتضح مما تقدم أن كثيراً من المقولات المتصلة باللغة العربية لم تؤسس على استقصاء موضوعي. فهي لا تزيد عن انطباعات يلعب الذوق والاهتمام والتعصب والعرقية فيها بسهم وافر. وهي تتناقض مع مقولات أخرى في المصادر نفسها تقوم على المنطلقات نفسها. وذلك ما يؤكد أن أمام الباحثين العرب عملاً ضخماً في إعادة ترتيب تلك الصورة.