من أيام جرى نقاش على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي حول العدالة في التوظيف أو كما يقال «وضع الشخص المناسب في المكان المناسب»؛ وتطرق الحديث للمحاباة العائلية أو المناطقية في الفرص الوظيفية، ومدى أهلية المرشحين للوظائف العليا بصورة عامة، وما إذا كانت الشهادة الابتدائية أو الدكتوراه هي المؤهل الأول لأي وظيفة، وقلت في معرض ذلك النقاش إنني ومنذ (35) عاماً قضيتها في إدارة الموارد البشرية شغلني ذلك الهم في التوظيف وهو ما نشير له نحن المختصون في الموارد البشرية ب(العدالة الداخلية، والمنافسة الخارجية)، حيث نهتم في استقرار بيئة العمل من حيث الرضا بالفرص المتاحة للجميع بعدالة ويقصد بذلك الترقيات، ونحرص على منافسة المنشآت الأخرى بالحصول على أفضل الكفاءات المتوفرة في سوق العمل من خلال التوظيف الجديد والتوظيف التعويضي، وحماية المنشأة من تسرب الموظفين المتميزين لخارج المنشأة، وقد يبدو هذا نظرياً سهل الفهم، ولكن تحقيقه على الواقع هو تحدٍّ هائل يشغل أذهان مجلس الإدارة في سدة المنشأة وموظفيها في ميدان العمل. عندما نقول في جمع من الناس، يجب أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فلن يختلف في ذلك عاقل مدرك لأهميته، ولكن عندما نأتي ننظر لكثير من الوظائف العامة والخاصة نجد أن عبارة (مناسب) لها ألف معنى لدى ألف شخص مختلف، فقد تعني كفوءاً في التنفيذ وقد تعني صاحب علاقات، وقد تعني بيروقراطياً، وقد تعني تأثيرياً، ولذا تفقد العبارة مدلولها عندما يجد أي شخص أن هناك وظيفة يشغلها شخص غير مناسب في نظره، لذا سعى كثير من علماء أو خبراء الإدارة والسلوك النظمي إلى الوصول لمفهوم شامل لكلمة (موظف مناسب)، وأخذ الأمر اتجاهين الأول في اتجاه تحديد الوظيفة ووضع معايير لها تتمثل في توصيف المهام والسلوكيات المطلوبة والتهيئة النفسية والمعارف والمهارات، وقد تمادى خبراء ما بات يعرف ب( التطوير المؤسسي) وهو فرع من فروع تنمية الموارد البشرية في التوسع في التوصيف الوظيفي حتى خرج أشمل المعايير لذلك والذي طورته وزارة العمل الأمريكية وبات يعرف بنظام (O*net)، وفي الاتجاه الآخر تراكمت جهود كبيرة في التعرف على الفرد المناسب للوظيفة فظهرت اختبارات الكفاءة والمهارات واختبارات القياس النفسي واختبارات السيم والشيم القيادية، وتعددت وسائل تنفيذها فظهر ما عرف بمقابلات التعميق (Probing Interviews)، واختيارات مراكز التقييم (Assessment Centers) ومنهجيات أخرى تمثل فيها الإبداع في الاختيار من أشهرها، منهجيه تحطم الطائرة (Airplane crush) والتي ابتدعها الرئيس السابق لشركة جينرال إلكترك (جاك والش) عن ما أرد اختيار خلفه، ومع كونها من أطول عمليات الاختيار بين المتنافسين من داخل المؤسسة، فقد كان لاختياره خلفه (جيفري إيملت) مخيب للآمال. لم تنته بعد إبداعات وأبحاث خبراء الإدارة في محاولة الوصول لتحقيق قاعدة (الشخص المناسب في المكان المناسب)، على أرض الواقع، فقد أصبح من المسلمات في علم الإدارة أن النجاح المؤسسي والتنافسي لا يعتمد على أي ميزة أو مورد أكثر من الاعتماد على كفاءة المنظومة البشرية في المنشأة وقدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة، لذا فتحقيق ذلك التميز يعتمد على آليات وطرق ووسائل وأنظمة توظيف وإدارة وتنمية الموارد البشرية، والتوظيف لا يعني بالضرورة ضم فرد للمنظومة البشرية من خارجها، بل إن ما بات يشار له ب(التوظيف المستدام) هو عملية التطوير والتقييم المستمر للموظفين وتعيينهم في الوظائف التي يبدعون بها أفضل وقد يعني ذلك أحياناً فصل الكفاءة الإدائية عن الهرمية الهيكليه، بحيث قد ينقل موظف من وظيفية قيادية إلى وظيفة أدائية ولكن مجهوده وإنجازه فيها يكون أكثر مردود نفعي على المؤسسة، ومع أن ذلك قد يشكل مأزماً نفسياً للبعض، حيث اعتاد الناس على ارتباط الدور القيادي بالاعتراف والاحترام، إلا أن هذا الإجراء بات ممارس في كثير من المنظمات دون التأثير على المكتسبات الوظيفية أو الاجتماعية للموظف. الحديث حول تنمية الموارد البشرية يمثل لي متعة خاصة، وقد أسرح فيه ساعات، ولكن هذا المقال محكوم بمساحة لابد من احترامها، لذا في ختام حديثي أقول لمن يعتقد أن إدارة الموارد البشرية هي إدارة إجرائية، «إدارة الموارد البشرية يجب أن تمثل ما لايقل عن (40 %) من وقت أيّ رئيس تنفيذي يريد أن يحقق أهداف منشأته».