تقوم الحياة على لعبة كبيرة من التحولات والمراوغات الإنسانية للطبيعة الفطرية والقدرية، وهي بذلك تُثبت أنها عميقة إلى القدر الذي لا يستطيع إنسان ما أن يكتشف سرها، ويحيط علماً بإكسيرها، وواضحة مستقيمة للدرجة التي تجعلها في متناول اليد كمعادلة رياضية سهلة لا يحتاج فيها العقل البشري إلى آلةٍ حاسبة. وهذا الغموض والوضوح يجعلان شهوة أي كاتب تتقد ليتناول أحدهما بالشرح والتفسير، غير أن من يكتب عن الحياة سوف يحتاج إلى مجلدات كثيرة ليتحدث عن سر واحد من أسرارها. أما الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ فقد خالف كل هذه التوقعات التي تتكهن بصعوبة الكتابة عن الحياة، فكتب روايته التي غالباً لا تتجاوز حاجز ال «مئة» صفحة، والتي تبدو في ظاهره كرواية ظريفة خفيفة تصلح أن تكون وجبة قرائية في ذات سفر، بينما تجذبك في باطنها من الصفحة الأولى وحتى النهاية التي ستصل إليها خلال ساعتين على الأرجح، وأنت تتبع السر العظيم المخبوء تحت رُكام الكلمات العميقة، والاستدلالات المنتقاة بعناية فائقة. فمثلاً لو تناولنا رواية السر الحارق القصيرة جداً، لوجدنا أن ملخصها يقع في هذه الجملة الضاربة في عمق الطبيعة الإنسانية: «السر مزلاج الطفولة» وبمجرد أن يفتح الطفل هذا المزلاج فلن يعود طفلاً أبداً، وربما يتجاوز مرحلة الرشد، رغم أن الرواية تتحدث عن طفل صغير يشك في تصرفات البارون الذي يصاحبه أثناء رحلة استشفائية، فيفهم الكثير من المعاني التي لو سعى إلى تعلمها فلن يستطيع إدراكها. والشيء نفسه في روايته لاعب الشطرنج التي تبدو وكأنها أقصوصة مختصرة للاعب شطرنج محترف، بينما يواجه ستيفان زفايغ بهذه الرواية كل الهواجس الإنسانية والرغبات التي تُدمر آخر ذرة في أعماقنا من أجل تحقيق الربح بطريقة أو بأخرى، حتى يكاد المرء أن يتنازل عن مبادئه دون أن تكسو حمرة الخجل وجهه. وباختصار فإن ستيفان زفايغ يستطيع بأقاصيصه أن يقتاد القراء الذين يكرهون الاستفاضة إلى «المختصر العميق». ** ** - د. عادل الدوسري